الخميس، 15 مايو 2014

عن اختلاق اسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني على أرض فلسطين


القضية الفلسطينية قضية معقدة، عصية الحل، يمكن وصفها اختصارا: بأنها قضية شعب أعزل احتُلت أرضهُ بالقوة من طرف كيان مدعوم من أقوى دول العالم. هذا الدعم قائم على خلفية فكرية تم التنظير لها على مدى عقود، لدرجة ترسخت معها هذه الخلفية الفكرية كحقيقة ثابتة لا شك فيها حول حق هذا الكيان (ذي الصبغة الغربية المتطورة والمعاصرة) في احتلال أرض شعب آخر (ذي صبغة يغلب عليها التخلف والجهل)، وبالمقابل انتظر الشعب الفلسطيني دعما من أشقاء الدين والهوية والذين لا يملكون القوة الكافية ولا الإرادة اللازمة لتغيير هذا الوضع، والأسوأ من ذلك أنه على المدى المنظور لا بوادر عن أي امكانية معقولة ومنطقية للتغيّر نحو الأفضل.

هذا الوضع المعقد دفع البعض للاعتقاد أن القضية الفلسطينية لا يمكن حلّها إلا من خلال معجزة سمائية، وأقصى ما يمكن فعله هو رفع الأكف إلى السماء والتضرّع للتعجيل بهذه المعجزة وتحقيق الانتصار.

فكيف وصلت الأمور إلى هذا التعقيد وهذه النقطة من اللا منطق، حيث يصبح المحتل القادم من جهات مختلفة من المعمورة صاحب الحق في هذه الأرض، وأصحاب الأرض لا حق لهم فيها.

حتى نناقش القضية يجب أن نفكك عناصرها:

  • أرض اسمها فلسطين
  • شعب يعيش على هذه الأرض إسمهم الفلسطينيون
  • آثار تمثل فترات مختلفة من التاريخ الذي عرفته فلسطين
  • قصص وردت في التوراة عن جماعة اسمها إسرائيل دارت أحداثها في مكان إسمه فلشتيم (في النص العبري) وهبه الله لها وأقامت فيه مملكة عظيمة  وفي الترجمات صار المكان إسمه فلسطين وليس فلشتيم
  • جماعات من قوميات مختلفة تشترك في الديانة اليهودية وبدعم من دول غربية هاجرت واحتلت فلسطين لتعيد مجد الأجداد الذين كانوا من عرق واحد: إسرائيل
  • دراسات تعتمد على النص التوراتي في كتابة التاريخ وتسخّر الآثار التي عثر عليها في فلسطين وما حولها لتأكيد هذا التاريخ وأصبحت هذه الدراسات تدرّس أكاديميا على أنها التاريخ الذي لا مجال للشك فيه لمملكة إسرائيل على أرض فلسطين
في كتاب "اختلاق إسرائيل القديمة - إسكات التاريخ الفلسطيني" للبروفيسور  والباحث التوراتي كيث وايتلام ينتقد الكاتب الأعمال التي قام بها علماء الآثار والباحثون التوراتيون بما فيها أعماله هو نفسه في وضع تاريخ لإسرائيل على أرض فلسطين وإخفاء التاريخ الفلسطيني عليها.


وهو يستعرض في كتابه الأفكار الأساسية التي تمحورت حولها أعمال باحثي التوراة لاختلاق إسرائيل، فهم يعتبرون كما هو موضح في  الصورة، كيف أن هذه الأرض هي مسقط رأس الشعب اليهودي حيث حقق ثقافة كان لها أثر عالمي، وكيف جاهد اليهود من أجل العودة لهذه الأرض، وكيف أنهم عادوا واستصلحوا وأحيوا لغتهم وبنوا وعمروا مجتمعا قويا يسعى للسلام وقادر على الدفاع عن نفسه وكيف أنهم جلبوا التقدم لجميع سكان البلد.


فقد قام هؤلاء الكتاب بوضع صورة متخيلة من الحاضر ومن التوراة عن سكان كنعانيين كانوا يقيمون حضارة فاسقة، وأن إسرائيل كانت الواسطة الإلهية لتدمير هذه الحضارة الفاسقة.

ومن هنا يأتي دور الحركة الصهيونية في العصر الحديث لإعادة إحياء هذه المهمة:


وبالتالي فهذه الحركة تسعى لإقامة وطن قومي لليهود في عصر الدول القومية الحديثة، مثلما اعتبروا أن إسرائيل كانت مملكة قومية استوطنت التلال في فلسطين  (تماما كما يفعل المستوطنون الآن)، في عصر لم يكن يعرف الدول القومية، فأسسوا لحضارة أشعّت في كل العالم، ولم يشكل اختلاف شكل الدولة (المملكة قديما، والدولة حديثا) أي عائق في وضع الصورة النموذجية التي يسعون لها.

وللأسف فقد ترسخت هذه الأفكار في الوجدان الغربي لدرجة أن كلمة Philistine صارت تطلق بشكل ازدرائي لوصف الشخص السوقي والجلف الذي يفتقر إلى الثقافة الرفيعة:


وهذا ما يورده وايتلام في كتابه على لسان بلفور، الذي يقول أن القوى الأربع العظمى ملتزمة بالصهيونية سواء أكانت على خطأ أو صواب، وهي أهم بكثير من رغبات الـ700 ألف عربي الذي يقطنون في تلك الأرض القديمة:


هذا الازدراء المعلن لأصحاب الأرض جعلني أعرف لماذا تمتلئ أرشيفات الدول الغربية بآلاف الصورعن العرب المحليين (كما يطلقون عليهم وليس الفلسطينيين، تماما مثلما فعل باحثو التوراة باطلاقهم اسم سكان الأرض وليس الفلسطينين) الذين يقيمون في فلسطين وعن بداوتهم وأوضاعهم البائسة وبعدهم عن الحضارة قبل الانتداب ومن بعده الاحتلال، ثم تلتها صور أخرى للمدن الفلسطينية وقد تم إعمارها بعد الانتداب وقدوم المهاجرين اليهود إليها، وكيف تغيّر حال البلد بعد ذلك.

ومن أهم العوامل والتي من المفترض أن تشكّل عائقا أمام باحثي التوراة في اثبات تاريخ إسرائيل على فلسطين هي الآثار،  إلا أن باحثي الآثار قاموا بتسخير الآثار التي عُثر عليها في فلسطين لتأكيد ماض متخيّل تم استيراد عناصره من قصص توراتية، وهذا ما يشير له وايتلام في كتابه:


فقد اعتبر باحثو الآثار استنادا على النص التوراتي أن من استوطن التلال هم الإسرائيليون وأن كل الآثار الموجودة في تلك المناطق من آواخر العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي هي آثار إسرائيلية، ويورد وايتلام في كتابه نقدا لاذعا على لسان مازار، حيث يؤكد أن التماثيل البرونزية الفلسطينية تم نسبتها إلى الإسرائيليين:


ولا يخفي وايتلام العلاقة بين باحثي الآثار والسياسة التي جعلتهم يختلقون تاريخا مصطنعا لإسرائيل على أرض فلسطين ويسقطون التاريخ الفلسطيني بشكل متعمّد:


فعلماء الآثار الإسرائيليون كما يقول إيلون في النص أعلاه: "لا ينقبون عن الآثار لمجرد الوصول إلى المعرفة والعثور على الأدوات وإنما لتأكيد جذورهم". وبالتالي فقد اعتبر وايتلام أنه من الضروري فصل النص التوراتي عن الآثار، وينقل نصا عن ليمحي:


فهنا يطالب ليمحي باعادة بناء الماضي على المعطيات الآثارية وليس تسخير الآثار لتاريخ موضوع ومستمد من نصوص توراتية، ويستدل وايتلام لهذا الغرض بالأثرين الوحيدين الذين يعتمد عليهما باحثو الآثار الإسرائيليين كدليل على وجود مملكة إسمها إسرائيل، الأول هو لوحة مرنبتاح والتي تعتبر الحجر الأثري الوحيد لأحد ملوك مصر القديمة والذي يرد فيه ذكر للقضاء على " إسرائل" أو "يسرائر"، والثاني هو لوح حجري عثر عليه ترد فيه كلمات " بيت دود" والتي اعتبرت إشارة لسلالة داود واعتبر ذلك إشارة لمملكة إسرائيل.



    وبنفس الطريقة اعتبر باحثو الآثار الإسرائيليين أن البيوت ذات الغرف الأربعة مثلا هي نمط هندسي إسرائيلي، في حين أن التنقيب بعيدا عن التلال أيضا عرف هذا النوع من الهندسة المعمارية، وهنا يجب طرح السؤال الذي لم يطرحه وايتلام بشكل مباشر في كتابه: ماذا لو كانت كل هذه الآثار ليست إلا آثارا فلسطينية؟

ويجب الإشارة هنا إلى أن كتاب وايتلام لا يخلو فصل من فصوله من ذكر إدوارد سعيد ومن اقتباس نصوص من كتبه وإشارات لأعماله وأهمها الاستشراق ومسألة فلسطين (The Question of Palestine)، ورغم أنه يقول أن إدوارد سعيد وآخرين أخفقوا في استعادة التاريخ الفلسطيني:


إلا أنه لا يخفي تأثره شخصيا بأعمال إدوراد سعيد وغيره من المفكرين وكيف جعلته هو ومجموعة من الباحثين يغيرون الكثير من آرائهم ومنهم طومسون وفنكلشتاين كبير باحثي الآثار الإسرائيليين الذي أثار إقراره بعدم وجود أي علاقة بين مملكة داود ومدينة القدس ضجة كبيرة.

ولن يستغرب من قرأ أعمال زياد منى وكمال الصليبي وفاضل الربيعي عن الجغرافيا الحقيقية للتوراة، أن يكون هناك أعمال مقابلة من الجهة الأخرى للبحث عن الحقيقة، فمنّى والصليبي والربيعي يؤكدون أن مسرح أحداث التوراة هو الجزيرة العربية وليس فلسطين،  وبالمقابل بدأ بعض باحثي التوراة والآثار يتجهون نحو إنكار أي علاقة بين النص التوراتي وأرض فسطين.

ما طالب به كيث وايتلام في كتابه هو ضرورة إعادة الاعتبار للتاريخ الفلسطيني الذي أخفاه المستشرقون وباحثو التوراة والآثار، ومن هنا يأتي دور أهل الاختصاص من الفلسطينيين من علماء الآثار والمفكرين في لعب هذا الدور واستكمال ما بدأه إدوارد سعيد وغيره من المفكرين لإعادة الحق لأصحابه.

إيجاد حل للقضية الفسطينية ليس عملا مستحيلا، لكنه ليس عملا سهلا، يبدأ باعادة تفكيك رموز هذه القضية والابتعاد عن ما يزيدها تعقيدا،  ويجب عدم ادخار أي جهد أو وسيلة لتحرير فلسطين واستعادة الحق الكامل لأبنائها وليكن العمل: القوة بالقوة والفكرة بالفكرة.




للمتابعة
على تويتر: https://twitter.com/Safwat_Safi
على الفيسبوك: https://www.facebook.com/safwat.safi
على جوجل +: https://plus.google.com/u/0/114044892980825575911/posts