الأربعاء، 19 يوليو 2017

بئر السبع مكة التوراة


تل أبو محفوظ موقع أثري اعتبره توراتيون تل بئر سبع التي ذكر في التوراة، بنى فيها العثمانيون ثكنة عسكرية وأسسوا فيها مدينة صغيرة، ظهرت صورها وصور سكانها في كثير من المطبوعات الغربية وسقطت في يد البرياطانيين في الحرب العالمية الأولى سنة 1917 وبعدها احتلها الصهاينة في 1948 وهجروا أهلها من عشيرة أبو محفوظ التي تنتسب لقبيلة عنزة العربية.





بئر السبع في مطلع القرن العشرين


بئر السبع الآن مدينة كبيرة وهي تعد المدينة الثانية من حيث المساحة في كيان الاحتلال الصهيوني المسمى إسرائيل.


ورد ذكر بئر سبع عدة مرات ضمن صيغة "من دان إلى بئر سبع" والتي تمثل حدود إسرائيل الكبرى في التوراة (إسرائيل ويهوذا) أي دان التي تم اسقاطها على منطقة تل القاضي أقصى شمال فلسطين قرب بحيرة الحولة التي جففها الصهاينة، وبئر سبع التي تم اسقاطها على تل أبو محفوظ. وبذلك تكون بئر سبع هي الحد الجنوبي لتلك المملكة المتخيلة على أرض فلسطين. أي أن صحراء النقب إلى أم الرشراش (إيلات) لا تقع ضمن الأرض المتخيلة لمملكة إسرائيل القديمة.

وورد ذكر بئر سبع في قصة يوسف عندما طلب من أبيه يعقوب - إسرائيل الحضور إلى مصر التوراتية "فَارْتَحَلَ إِسْرَائِيلُ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ وَأَتَى إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ، وَذَبَحَ ذَبَائِحَ لإِلهِ أَبِيهِ إِسْحَاقَ" (سفر التكوين 46:1)

وترد في قصة إسحق حيث يقول النص في سفر التكوين: "ثُمَّ صَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ.  فَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَالَ: «أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ. لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ، وَأُبَارِكُكَ وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ مِنْ أَجْلِ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِي،  فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ. وَنَصَبَ هُنَاكَ خَيْمَتَهُ، وَحَفَرَ هُنَاكَ عَبِيدُ إِسْحَاقَ بِئْرًا." وقد بحث منقبو الآثار جاهدين عن هذا المذبح وعندما لم يعثروا عليه قاموا ببناء مذبح من حجارة عثروا عليها في تل أبو محفوظ وقالوا أن هذه الحجارة قد تكون من حجارة المذبح القديم.


يأتي ذكر بئر سبع أيضا في قصة حلف البئر بين إبراهيم وأبيمالك:
 "وَعَاتَبَ إِبْرَاهِيمُ أَبِيمَالِكَ لِسَبَبِ بِئْرِ الْمَاءِ الَّتِي اغْتَصَبَهَا عَبِيدُ أَبِيمَالِكَ.
26 
فَقَالَ أَبِيمَالِكُ: «لَمْ أَعْلَمْ مَنْ فَعَلَ هذَا الأَمْرَ. أَنْتَ لَمْ تُخْبِرْنِي، وَلاَ أَنَا سَمِعْتُ سِوَى الْيَوْمِ».
27 
فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ غَنَمًا وَبَقَرًا وَأَعْطَى أَبِيمَالِكَ، فَقَطَعَا كِلاَهُمَا مِيثَاقًا.
28 
وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ سَبْعَ نِعَاجٍ مِنَ الْغَنَمِ وَحْدَهَا.
29 
فَقَالَ أَبِيمَالِكُ لإِبْرَاهِيمَ: «مَا هِيَ هذِهِ السَّبْعُ النِّعَاجِ الَّتِي أَقَمْتَهَا وَحْدَهَا؟»
30 
فَقَالَ: «إِنَّكَ سَبْعَ نِعَاجٍ تَأْخُذُ مِنْ يَدِي، لِكَيْ تَكُونَ لِي شَهَادَةً بِأَنِّي حَفَرْتُ هذِهِ الْبِئْرَ».
31 
لِذلِكَ دَعَا ذلِكَ الْمَوْضِعَ «بِئْرَ سَبْعٍ»، لأَنَّهُمَا هُنَاكَ حَلَفَا كِلاَهُمَا."
وقد بحث التوراتيون عن هذه البئر في أرض تل أبو محفوظ، وقد عثر ثومسون في نهاية القرن التاسع عشر على بئر وبالرغم من أن حجارة تلك البئر تعود للفترة البيزنطية بحسب ما يؤكده علماء الآثار إلا أنه تم إطلاق إسم بئر إبراهيم عليها وتم ترميمها وهي الآن مزار ضمن متحف في بئر السبع.







أما أبيمالك الذي ذُكر في قصة البئر فهو ملك جرار التي تم إسقاطها على خربة إم الجرار جنوب شرق غزة والتي قيل أن أهلها من عائلة أبو معيلق هم امتداد لهذا الملك أبيمالك لتشابه صيغة الإسم!  (Abimelech - Aboumeileg)

وأبيمالك هذا وفقا للقصة التوراتية رجل شهم فقد قال إبراهيم عن زوجته سارة أنها أخته، فأرسل أبيمالك وأخذها، ولما عرف أنها متزوجة دعا إبراهيم وقال له ماذا فعلت بنا؟ وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية عظيمة؟ فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم ورد إليه سارة


والقصة ذاتها تقريبا حدثت قبل ذلك مع فرعون مصر التوراتية: إذ أوصى إبراهيم سراي زوجته "قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ" (تكوين 12:13)
وأأخذ فرعون سارة و "صَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ." (تكوين 12:16)
وبعد أن اكتشف فرعون أنها زوجة إبراهيم وليست أخته قال له "هوذا امرأتك، خذها واذهب" (تكوين 12:19)


ثم صعد أبرام وزوجته وكل ما كان له ولوط معه إلى الجنوب، وقد كان غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب تماما كما تقول التوراة نصا، ذهبوا إلى بيت إيل وهناك حدثت مخاصمة بين رعاة أبرام ورعاة لوط قررا بعدها أن يفترقا فسكن أبرام في أرض كنعان ولوط نقل خيامه إلى سدوم.


أما أهم ذكر لإسم بئر سبع في التوراة هو برأيي لقصة هاجر و إسماعيل ، يقول النص في سفر التكوين:
9 وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ،
10 
فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ».
11 
فَقَبُحَ الْكَلاَمُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ابْنِهِ.
12 
فَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ.
13 
وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ».
14 
فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَالْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ.
15 
وَلَمَّا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ طَرَحَتِ الْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَارِ،
16 
وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لأَنَّهَا قَالَتْ: «لاَ أَنْظُرُ مَوْتَ الْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ.
17 
فَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الْغُلاَمِ، وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ.
18 
قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً».
19 
وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ.
20 
وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ.
21 
وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.

هذه القصة تشبه إلى حد كبير النسخة اﻹسلامية التي تجعل مسرح هذه الحادثة في مكة، ورغم أن  البعض يرى  أن فاران هي امتداد لشبه جزيرة سيناء بسبب ورود ذكرها في قصة خروج موسى وبني إسرائيل من مصر إلا أن  البعض الآخر يعتقد أنها في الحجاز تماشيا مع النسخة الإسلامية من القصة.


يذكر النص التوراتي الإسماعيليين في مواضع شتى ومن بينها قصة يوسف مع إخوته عندما ألقوه في بئر في دوثان التي وضعها التوراتيون في منطقة عرابة قرب جنين، حيث مرت قافلة للإسماعيليين قادمة من جلعاد التي يعتبرها التوراتيون قرب السلط في منطقة البلقاء في الأردن ومرورا بشكيم التي يعتبرونها نابلس ذاهبة باتجاه مصر.. بالطبع سواء أكان الإسماعيليون من سكان النقب أو الحجاز سيصعب تفهّم سبب مرور قافلتهم المتجهة نحو مصر من البلقاء ونابلس.


وتجدر الإشارة هنا لما وقع فيها المؤرخون والجغرافيون والمفسرون المسلمون والعرب من ارباك أيضا عندما اعتمدوا القصة التوراتية التي نقلتها لهم كتب أهل الكتاب على حد وصفهم في ذلك الحين، فنجدهم يذكرون حبرون وأشدود وعسقلان باعتبارها أماكن وردت في القصة التوراتية، لكن تفاديا لما قد تسببه قصة بئر سبع من تناقض يعتمدون القصة الإسلامية عن زمزم ومكة ولتفسير ذهاب وعودة إبراهيم من جرار إلى مكة في نفس اليوم أوردوا في كتبهم قصة الدابة التي كانت تنقل إبراهيم بسرعة هائلة.


فمثلا الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك في القرن الثالث الهجري والذي يعد أحد أهم وأقدم المراجع التي نهل منها أغلب من جاء بعده من المؤلفين يقول في معرض حديثه عن قبر إبراهيم : "إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر ، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو الذي قضى له ببئر السبع هي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن"

وعندما يتحدث عن قصة إسماعيل وهاجر يقول: "فوضعهما بمكة"، وعند الحديث عن قصة الذبح يقول: "كان إبراهيم فيما يقال إذا زارها يعنى هاجر حمل على البراق يغدو من الشأم فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشأم"

لا يمكن أن تكون بئر سبع هي التي في تل أبو محفوظ وفي مكة في آن واحد، هذا يطرح مشكلة حقيقية في جغرافيا التوراة وارتباطها بجغرافيا فلسطين. وهذا ما تؤكده اللقى أﻷثرية ونتائج التنقيبات في فلسطين.

الدكتورة ليدار سابيرهن رئيسة مختبر علم آثار الحيوان في معهد علم الآثار في جامعة تل أبيب والدكتور إيرز بن يوسف في دراسة نشرتها مجلة معهد الآثار في جامعة تل أبيب في دراسة عن دور الحيوانات في الثقافة الإنسانية القديمة، في أواخر عام 2013 بعد  تنقيب وبحث في منطقة مواقع صهر النحاس في منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت، و باستخدام الكربون المشع والأدلة المكتشفة في الحفريات يؤكدان أن أول ظهور للجمال في وادي عربة لم يكن قبل سنة 930  قبل الميلاد وأن هذا التاريخ يتوافق مع معطيات أخرى من النقب والمناطق الشمالية.

أما أستاذ علم آثار إسرائيل في العصر البرونزي والعصر الحديدي في جامعة تل أبيب، والمدير المشارك في التنقيب في تل مجدو في شمال فلسطين المحتلة إسرائيل فنكلشتاين والمؤرخ وعالم الآثار نيل سيلبرمان في كتابهما التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها يقولان: "في الحقيقة، لقد كشف التنقيب في تل جمه (جبل صغير غرب بئر السبع وشرق دير البح) والذي كان يشكل مخزنا مهما جدا على طريق القوافل الرئيسي بين الجزيرة العربية والبحر الأبيض المتوسط كشف عن زيادة مثيرة في عدد عظام الجمال في القرن السابع ق.م كانت العظام كلها تقريبا لحيوانات بالغة مما يفيد بأنها كانت من الدواب المستخدمة لحمل الأثقال في الأسفار وليست من القطعان التي يتم تربيتها محليا وإلا لوجد بينها عظام حيوانات صغيرة أيضا"

أي أن نتائج التنقيبات الأثرية تجمع على أنه لم يكن هناك وجود للجمال قبل 930 ق.م زهذا يترتب عليه بشكل منطقي ومباشر أن القصة التوراتية عن دخول الجمال مع إبراهيم ولوط والتي يفترض أنها حدثت حوالي 1900 قبل الميلاد هي حدث مستحيل، وأن الخليل ليست حبرون وتل أبو محفوظ ليست بئر السبع وكل ما بُني على هذا الاسقاط باطل.






مصادر:

1- تقرير ناشيونال جيوغرافيك (باللغة اﻹنجليزية) حول تاريخ وجود الجمال في فلسطين: http://news.nationalgeographic.com/news/2014/02/140210-domesticated-camels-israel-bible-archaeology-science/
2- تقرير جامعة تل أبيب (باللغة اﻹنجليزية) حول عدم وجود آثار جِمال قبل 930 ق م في فلسطين:
https://archaeology.tau.ac.il/ben-yosef/pub/Pub_PDFs/Sapir-Hen&Ben-Yosef13_CamelAravah_TelAviv.pdf


3- التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها - إسرائيل فنكلشتاين ونيل سيلبرمان





السبت، 15 يوليو 2017

علينا أن نختار إما قضية مقدسات أو قضية احتلال

نعيش حالة تيه منذ سبعين عاما لا نعرف كيف السبيل إلى الدخول إلى اﻷرض المباركة أو السبيل إلى استعادة وطننا وحقوقنا المغتصبة، تُهنا في الفكرة،  في إيجاد التعريف الحقيقي لقضيتنا والتبس علينا دورنا فيها، فهل نحن أهل الرباط المدافعون عن مقدسات أمّة دونًا عن شعوب العالم كلها أم نحن شعب يناضل من أجل تحرير أرضه واستعادة حقوقه المغتصبة ليعيش مثل بقية شعوب العالم كلها.

نعيش منذ عقود عذاب التهجير واللجوء والتشتت، بعضنا هنا وبعضنا اﻵخر في أي مكان إلا هنا، نناضل من أجل لمّ شمل، من أجل جواز سفر أو هوية، نتجرع عنصرية المطارات والموانئ والمعابر الحدودية لا لشيء إلا لأننا أصحب القضية.

اغتصب الاحتلال الصهيوني معظم أرضنا ويبتلع يوما بعد يوم المزيد منها، نعيش معاناة الدمار والحصار والجدار والانتظار حيث لا جدوى من الانتظار في هذا العالم الشاهد الصامت.

ما أن تنقل وكالات اﻷنباء خبرا عن القدس تتحرك العواطف وتشتعل الميكروفونات بالشعارات والدعوات للمؤازرة والمساندة التي سوف تتلاشى بعد سويعات إلى سراب.

إذا كان تعريف القضية الفلسطينية هو قضية مقدسات إسلامية اغتصبها محتلون يهود (وهو التعريف المعمول به منذ قرار التقسيم)، فعلى دول ما يسمى باﻷمة اﻹسلامية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة من أجل استعادة هذه المقدسات وفي انتظار حدوث  ذلك عليها  أن تقدّم بلا منّة كل الوسائل الضرورية لعيش كريم للفلسطينيين الذين تضرروا من هذا الصراع على المقدسات التي تم اختيار أرضهم لتكون موقعا لها والاستمرار في حالة الانتظار وأن لا يتم اعتبار أعمال المقاومة والدفاع عن المقدسات إرهابا كما يحدث في الآونة الأخيرة .




وإن كان تعريف القضية الفلسطينية هو قضية احتلال أرض وتهجير  أهلها وحرمانهم من حقوقهم عليها، فهنا تكون القضية قضية الفلسطينيين كلهم:  في فلسطين المحتلة عام 48 وفي الضفة وغزة وفي الشتات، وعندها سيكون النضال بكل الوسائل من أجل استعادة أرضهم وحقوقهم  محل دعم واحترام كل من يؤازرون الحق في هذا العالم،  فلا يخاطبون العواطف ولا يستجدون المساعدة من أحد ولا يناشدون أحدا باسم المقدسات، فلا جدوى من مناشدة أنظمة  أغلبها تربطه علاقات طيبة مع الاحتلال ولا من شعوب لا حول لها ولا قوة بعضها يشعر  باليأس من حالة اللاجدوى التي يعيشون فيها.


علماء اﻵثار في كيان الاحتلال ينقبون منذ عقود عن أي أثر يؤكد الرواية التوراتية التي قام عليها هذا الاحتلال والتي تجعل من أرض فلسطين أرض مقدسات.. لم يجدوا شيئا، وبعضهم خرج عن صمته وأعلن أن لا أثر يؤكد حدوث هذه القصص على هذه اﻷرض  بل أكثر من ذلك ففي هذه اﻷرض ما ينفي حدوث قصص التوراة  فيها.

ورغم ذلك يعمل الاحتلال جاهدا من أجل ما سيمّكنه من دفن الحقيقة وترسيخ  الأكاذيب إلى اﻷبد، وهو الاعتراف بيهودية الدولة.


علينا أن نختار بين الدفاع عن مقدسات ليست لنا وأرض ليست لنا وهواء ليس لنا وحدنا بل هو ﻷمة بأسرها أو ندافع عن أرضنا وعن بحرنا وعن هوائنا وعن حقنا في أن نعيش قبل أن يتم تصفية قضيتنا وإلى اﻷبد.

الأربعاء، 12 يوليو 2017

فلسطينيو عسقلان

لقد ترسخت في الوعي الغربي صورة نمطية كرستها قصص التوراة وأفكار المستشرقين منذ قرون 
حول الدور الذي قام به الإسرائيليون عندما كانوا الواسطة التي قام من خلالها الرب يهوه بتطهير الأرض المقدسة الموعودة من فسق وفجور الفلسطينيين وغيرهم ممن سكنوا تلك الأرض.



الفلست أو الفلشتيم أو الفلسطينيون في التوراة كانوا يشكلون خمس ممالك، ورد ذكرها في سفر يشوع فيقول: أَقْطَابِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْخَمْسَةِ هم: الْغَزِّيِّون وَالأَشْدُودِيّونِ وَالأَشْقَلُونِيّونِ وَالْجَتِّيّونِ وَالْعَقْرُونِيّونِ.



بحيث: ( الغزيون من عزة التوراة / غزة) و (الأشددوديون هم قرية اسدود) و(الأشقلونيون من عسقلان المجدل) و الجتيون من (تل الصافي – قرب عجور في محافظة الخليل) و (العقرونيون من خربة المقنع – قرب الرملة) بحسب الاسقاط الذي يطبقه التوراتيون على جغرافيا فلسطين


ومما يصعب تصوره أن المنطقة الساحلية الممتدة من عسقلان إلى غزة كان بها خمس ممالك، أو خمس قبائل فالمنطقة صغيرة لا تتسع لهذا العدد من الممالك أو القبائل ولا تعرف هذا النوع من التقسيم وإلا لبقي متوارثا ولذكرته كتب البلدان والأعلام العربية القديمة.


هؤلاء الفلسطينيون حسب مفسري التوراة والمستشرقين قدِموا من كريت أو من بحر إيجه واستوطنوا هذه الأرض، وقد كانوا أجلافا وعماليق، ونذكر : التوراة منهم جالوت الجبار الذي قتله داود في معركة دارت في مكان تذكره التوراة في سفر صموئيل حيث يقول النص:



"وَجَمَعَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ جُيُوشَهُمْ لِلْحَرْبِ، فَاجْتَمَعُوا فِي سُوكُوهَ الَّتِي لِيَهُوذَا، وَنَزَلُوا بَيْنَ سُوكُوهَ وَعَزِيقَةَ فِي أَفَسِ دَمِّيمَ.2وَاجْتَمَعَ شَاوُلُ وَرِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي وَادِي الْبُطْمِ، وَاصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ"







هذه الأماكن من غير الممكن العثور عليها في فلسطين، وإنما تم إسقاطها على مناطق تقع بين الخليل وساحل البحر.


وبفضل آلاف المؤلفات التي عمل عليها رجال دين ومؤرخون ومستشرقون تحوّلت هذه القصة في الوعي الغربي إلى ملحمة تاريخية ذات تأثير عالمي، وعلى سبيل الثمال في كتاب لمؤرخين حديثين، هما والتر لاكور وباري روبين كتبا في 1984 عن علاقة قصة بني إسرائيل القديمة باليهود الصهاينة:


"لقد كانت أرض إسرائيل مسقط رأس الشعب اليهودي، هنا تكونت هويتهم الروحية والدينية والقومية. وهنا حقق الشعب الاستقلال وأنشأ ثقافة كان لها أثر قومي عالمي. وهنا أيضا كتبوا الكتاب المقدس ووهبوه للعالم. وبعد النفي من أرض إسرائيل ظل الشعب اليهودي وفيا لهذه الأرض في جميع البلدان التي تشتت فيها ولم ينقطع قط عن الصلاة والأمل بالعودة إليها لاستعادة استقلاله القومي بدافع هذا الرابط التاريخي. جاهد اليهود طيلة القرون الماضية للعودة إلى أرض آبائهم ولاستعادة دولتهم. عاد اليهود بأعداد كبيرة في العقود الأخيرة. استصلحوا القفار وأعادوا إحياء لغتهم، بنوا المدن والقرى، وأسسوا مجتمعا قويا دائم النمو، له حياته الاقتصادية والثقافية الخاصة، سعوا إلى السلام لكنهم في الوقت نفسه استعدوا للدفاع عن أنفسهم. لقد جلبوا نعمة التقدم لجميع سكان البلد وتطلعوا للتحرر والاستقلال."


وبهذا الشكل ارتسمت صورة راقية للحركة الصهيونية في الغرب، وبالطريقة ذاتها تم تكريس صورة نمطية أخرى معاكسة عن الفلسطينيين مستمرة إلى يومنا بحيث لا زال معنى كلمة فلسطيني: بمختلف اللغات :Philistine, Philistin, Filestio, Filester هي كلمة مهينة تستخدم لوصف شخص لا يحب أو لا يفهم الفن والأدب والموسيقى وتقال للشخص لجلف غير المتحضر. 


في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تم التقاط آلاف الصور في فلسطين وهذه الصور تعجّ بها أرشيفات عدة دول غربية، لقد كانت تلك الصور تقدم للجمهور الغربي الصورة المتخيلة النموذجية للأرض القديمة المقدسة: رعاة وقرويين وبدوا ونساء بأزياء قديمة يعيشون حياة بدائية. ويقابل هذه الصورة صورة أخرى لمهاجرين صهاينة بأزياء حديثة، يعملون في مزارع الكيبوتسات والمصانع وينقلون شعلة الحضارة الغربية إلى الأرض القديمة.
صهاينة قادمون من أوروبا

فلسطينيون من رام الله



لدرجة أنه بعد عامين من وعد بلفور الشهير الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بتأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كتب بلفور العبارات العنصرية التالية:


"إن القوى الأربع العظمى ملتزمة بالصهيونية وسواء كانت الصهيونية على خطأ أم على صواب أو كانت شيئا جيدا أو سيئا فإنها متأصلة بعمق في تراث الماضي البعيد وفي حاجات الحاضر وآمال المستقبل وهي أهم بكثير من رغبات وتحيزات السبع مئة ألف عربي الذين يقطنون الآن تلك الأرض القديمة"



لكن آثار فلسطين تقدّم صورة مختلفة عن البشر الذين عاشوا في أواخر العصر البرونزي في فلسطين، فقبل سنوات وبعد بحث دام ثلاثين عاما اكتشف فريق تنقيب عن الآثار مقبرة كبيرة في عسقلان المدينة التي يزعم الصهاينة أنها إحدى المدن الفلسطينية الخمس المذكورة في التوراة.



المقبرة تحتوي على مئتين وأحد عشر هيكلا تعود للفترة ما بين القرنين 11- 8 ق.م، أي الفترة التي نشأت فيها مملكة إسرائيل الكبرى والمزعومة أنها كانت على أرض فلسطين. هذا العدد الكبير من القبور كافٍ ليوفر قاعدة بيانات ثرية جدا عن الحياة في تلك الفترة، عن والغذاء، والعادات الدينية والإجتماعية، ومعدلات الأعمار، وأسباب الوفاة وعادات الجنائز وعن أنواع الأمراض التي كانوا يعانون منها، بالإضافة لما يمكن أن يقدمه تحليل الحمض النووي من معلومات عن أصحاب هذه القبور.

ولو أن ما رشح من معطيات حتى الآن يعد قليلا، لكنه كاف ليكشف الكثير وليشكل صدمة لأصحاب تلك الصورة النمطية عن الفلسطينيين:


أولا أصحاب هذه القبور أحجام أجسادهم عادية... فلا عماليق ولا جبابرة بينهم!





ثانيا تمتع أصحاب هذه القبور بذوق فني رفيع، فقد امتلأت قبورهم بقوارير عطور، وآذانهم زينت بأقراط فضية دقيقة قد وأجسادهم بعقود وأقراط وأساور وخواتم مصنوعة من البرونز والعقيق والصدف والخرز مما يؤكد اهتمامهم بكل ما يتعلق بالذوق والجمال.



أمام هذا التناقض بين اللقى اﻷثرية والقصة التوراتية، فالمنطق لا يترك إلا خيارات قليلة:

- إما أن قصص التوراة هي قصص خيالية
- أو أن قصص التوراة تتحدث عن زمن أقدم وهذا أمر مستحيل ﻷن أحداث التوراة محصورة بأمور تتعلق بتتطور أدوات البشر وحضارتهم (مثل الكتابة والزراعة والصناعة)
- أو أن قصص التوراة حدثت في مكان آخر


لكن الحتمي والثابت  أن أصحاب قبور عسقلان لم يكونوا عمالقة ولا أجلافا، ولا علاقة لهم ببني إسرائيل، والصورة النمطية التي تكونت بعامل هذه القصة هي صورة زائفة.



رابط مشاهدة حلقة فلسطينيو عسقلان من سلسلة #تاريخ_فلسطين_المغيب :
https://www.youtube.com/watch?v=230z7VyTIxM