الخميس، 26 يناير 2017

مشهدان في الذاكرة من دمشق 1982


في عام اثنين وثمانين سافرت وعائلتي إلى الشام، لم تكن في وقتها رحلات مباشرة من الجزائر إلى عمّان، أقمنا بضعة أيام في دمشق، لم تكن تلك أولى الرحلات ولا آخرها، ولطالما حَمّلتني الشام ذكريات منها.
من تلك الرحلة حَملت بعض الذكريات، لكن أكثر ما أذكره مشهدان ارتسما في لوحتين طُبِعتا على جدار الذاكرة.
في المشهد الأول كنت أسير بصحبة والدي في أحد شوارع دمشق، عندما تسللت رائحة جذابة إلى أنفينا، لقد كانت أقوى من أن نقاومها... لقد جعلتنا نشعر بالجوع الشديد، فاستسلمنا سريعا.
كان مطعما صغيرا لبيع شطائر الفلافل، كان المكان مكتظا، اشترى والدي شطيرتين، وكان المطعم يقدّم أكواب لبن أيضا، فطلب والدي اثنين. أكلنا بِنَهم شديد.... كان طعم الفلافل الساخنة يمتزج مع اللبن البارد ويذوب في الفم وينساب... كانت كمية اللبن مناسبة جدا لحجم الشطيرة، أو هكذا هيُّئ لي فوزعت عدد رشفات اللبن بما يتناسب مع عدد اللُقم. لا أذكر أنني رفعت رأسي وأنا آكل إلا بعد أن أنهيت الشطيرة. لم يكن ذلك جوعا، لقد كان طعمها لذيذا فعلا..
ما أن أنهيت شطيرتي رفعت عيني تجاه والدي وكان هو أيضا ينظر إلي.. لم يكن باديا عليّ الشبع، فابتسمت عينا والدي وسألني: "كمان؟" فضحكت وأجبت سريعا "كمان"، فعاد والدي ووقف في طابور الزبائن واشترى لنا شطيرتين ودون أن ينسى كوبي لبن آخرين.
التهمناهما بنفس الاستمتاع.. كنا نتبادل النظرات ونضحك. كان مشهدا رائعا اجتمع فيه طعم الفلافل الساخنة مع اللبن وضحكاتنا أنا وأبي... شعرت بسعادة غامرة لا تنسى في تلك اللحظة.
أما في المشهد الثاني فكنت برفقة والدي أيضا، كان في الشارع باعة يفترشون الأرض يبيعون أشياء مختلفة، أحدهم كان كبيرا في السن، جذبت انتباهي بضاعته، ألعاب بألوان مختلفة بعضها متحرك ويُصدر أصواتا.. واصلنا المسير وبقيت عيناي تتفحص الألعاب زمنا، ثم وقفنا في مكان غير بعيد ربما لننتظر وسيلة نقل. في تلك الأثناء مرّ رجل طويل مفتول العضلات يلبس زيّا عسكريا مرقطا، وفي قدميه جزمة سوداء عالية، ويضع السروال داخلها، كُمّا القميص كانا مثنِيَيْن ومرفوعين فوق المرفقين، قبعة "البيريه" كانت حمراء مائلة فوق رأسه، كان يمشي مختالا.. كان منظره يدعو للإعجاب.
تابعته بعيني فترة من الزمن، ثم انتقلت عيناي لمشاهد أخرى في الشارع، ففي الشام لا يمكنك إلا أن تمتع ناظريك بما حولك. وفجأة سمعت رجلا يصرخ ويقول: "يا سِيدي، يا سِيدي" (بكسر السين ومدّ الدال)، كان ذلك صوت الرجل بائع الألعاب، كان لا يزال جالسا على الأرض، وكان يقف أمامه ذلك الرجل صاحب الزي العسكري الأنيق... لم أكن أسمع كلام الجندي، كنت فقط أسمع صوت الرجل الكبير وهو يتوسل، كان ينظر للجزمة ويتوسل وظل يردد يا سيدي يا سيدي، لم يشفع له توسله، رأيت الجزمة تركل فخذه، وبطنه، استلقى على الأرض والتف حول نفسه ليتخذ من تلك الوضعية درعا، وظل يصرخ ويتوسل، لم تمنع تلك الوضعية ولا توسلاته ركلات الجزمة..لقد رأيت الجزمة تضرب وجهه، ورأيت الدم يسيل من فمه... تلاشى كل شيء في ذلك الشارع ، لم أكن أرى إلا الرجل الكبير والجزمة... كان الشارع يعج بالمارة لكن أحدا منهم لم يحاول التدخل، لم يرغبوا في إزعاج العسكري ذي الزي المرقط... كان المشهد معقّدا جدا: شارع يعج بالمارة رجل قوي يضرب رجلا ضعيفا كان يبيع ألعابا على قارعة الطريق، لا أحد من المارة يتدخل... شعرت برغبة شديدة في الصراخ والبكاء.. كنت فقط أسأل: "ليش ليش؟"
لقد كنت صغيرا، بقي ذلك المشهد المعقّد راسخا في ذاكرتي... أستحضره في كل مرة أرى أو أسمع أخبار ظلم العسكر للناس. وأيضا المشهد البسيط في مطعم الفلافل الصغير، طعم الفلافل مع اللبن وضحكة أبي، بقي راسخا.. لدرجة أني في كل مرة أشتري شطيرة فلافل أطلب من البائع أن لا يضع معها سلطة طحينية وأن لا يضيف المخلل عليها، وأحاول أن أحصل على بعض اللبن لعلي أحصل على طعم كالذي تذوقته في الشام وأستذكر تلك اللحظات السعيدة مع والدي رحمه الله.

صفوت صافي

قصة قصيرة من الذاكرة: المتسول صاحب القشابية


كان يقف عند مخرج سوق "لاباستي" في وهران الباهية، كانت عيناه غائرتين، لم يكن بحاجة لنظارات سوداء ليثبت للناس أنه ضرير، مثل المتسول الذي كان يجلس في شارع خميستي، فقد كان يسترق النظر عندما يلقي أحد المارة قطعة نقطية في الطبق أمامه ويتحرك رأسه تلقائيا متتبعا أنثى فاتنة القوام.
كان ضرير لاباستي  يرتدي قشابية (جلابة من صوف) سوداء اللون يخفف من لونها الداكن خطوط متباعدة تنساب من الكتفين إلى أسفل فتمنح من يلبسها مظهرا أنحف، كان عمره مرسوما على تجاعيد وجهه، ومسموعا في نبرات صوته وهو يطلب العون.. كثير من الناس كانوا يلتفتون لنداءه ويجودون بما بقي في جيوبهم من قطع نقدية بعد شراء حاجاتهم من سوق لاباستي.
في يوم دخلت أنا وأصدقائي إلى أحد مطاعم شارع لاباستي، كانت حالة محافظنا يومها تسمح بهذا الترف، اتخذنا من طاولة في الزواية الداخلية موقعا لنا، جلست أنا في الزاوية، حيث مجال الرؤية أوسع. كان صاحب المطعم يجلس خلف طاولة مرتفعة بجانب الباب، وظهره للجدار، والمطعم أمام ناظريه. كان على الطاولة الأولى أمامه رجل يرتدي قشابية سوداء مخططة، إنه الرجل الضرير يتناول وجبة غذاء، طبقٌ من اللوبيا البيضاء المطبوخة مع رُبّ الطماطم واللحم وبجانبها سلة صغيرة بها قطع دائرية الشكل من الخبز الفرنسي.
أسعدني المشهد كثيرا، رجل مُعْوِزٌ يجلس في مطعم يتناول وجبة غذاء، صاحب المطعم بالكاد يتحرك، يدخنّ سيجارته بتأنّ، التفت باتجاهي وانتبه أني أنظر إليه فابتسم بوقار وأومأ برأسه ثم عاد لينظر أمامه، شعرت بغبطة شديدة، أخذت أتأمل وجه صاحب المطعم لعلي أُثري فراستي بتقاطيع أصحاب القلوب الطيبة، كان أسمر اللون، صغير العينين، بأنف مائل نحو الأعلى باستدارة خفيفة لا حدة فيه، ورأسٍ هجر الشَعر معظمه... قلت في نفسي ما أكرم هذا الرجل وما أطيبه، حتما هذه ليست أول مرة ولن تكون الأخيرة، هذا الرجل الوقور معتاد على إكرام الفقراء.. لو كَثرَ أمثاله لما بقي بين الناس محتاج.
قام الرجل صاحب القشابية المخططة، واتجه بدون عناء إلى طاولة صاحب المطعم، ذلك أكدّ حدسي بأنه يرتاد المطعم كثيرا وبات يعرف المكان جيّدا، زاد احترامي لصاحب المطعم، راقبت المشهد بلهفة، انتبه صاحب المطعم لاهتمامي، واكتفى بالابتسام مرة أخرى. تبادلا الحديث لكني لم أسمع شيئا، أخرج صاحب المطعم نقودا ورقية من الدرج أمامه وأعطاها لصاحب القشابية، قلت في نفسي يا الله، أي رجل هذا، يُطعم الرجل ويُعطيه مبلغا كبيرا من المال ... وأنا الذي فكرت بأن أطلب منه أن أدفع قسطا من ثمن الوجبة لأساهم في عمل الخير هذا... قررت أن لا أفعل، لن يقبل حتما رجل بهذا الكرم أن أشاطره كرمه. قررت أن أكتفي بتقديم الشكر له وتهنئته على كرم أخلاقه.
انتهينا من تناول طعامنا، لا أذكر ما أكلت يومها، لم تحتفظ ذاكرتي بهذه المعلومة، قصة صاحب القشابية كانت طاغية، اتجهت نحو صاحب المطعم، وقبل أن أبادر بكلمات الشكر، قال بصوت عالٍ: "شفت؟"، قبل أن أرد بالإيجاب أكمل: "كل يوم يأتي إلى هنا، كل يوم"
كان يقول ذلك بحسرة شديدة، لم أفهم سبب حسرته، فقلت بشكل استفهامي: لقد أعطيته الكثير من المال، فانفجر صاحب المطعم مغتاظا، صار فمه أكبر، ظهرت أسنانه السوداء من أثر التدخين، بدت عيناه أصغر، تحوّل هدوءه إلى انفعال ورفع يده مفتوحة الأصابع من أسفل باتجاه الأعلى حتى صارت كف اليد أمام الوجه، رفع حاجبيه وهز رأسه عكس اتجاه حركة اليد وقال: "يا الربّ العالي، شفت شفت؟! هذا الرجل يأتي كل يوم إلى هنا ومعه صرّة مَلأَى بالقطع النقدية، يضعها أمامي، ثم يجلس لتناول الغذاء، أعُدّ القطع وأستبدلها بأوراق نقدية، وأخصم ثمن وجبة الغذاء وأعطيه الباقي، ثم يخرج ويتجه نحو الحمام التركي المجاور، ويعطيه صرّة مماثلة، قال بكثير من التأثر والحسد: هذا المتسوّل يكسب أكثر مني.
أصابتني دهشة شديدة، ومشاعر متضاربة، تلاشى شعور الوقار والتبجيل الذي حملته لصاحب المطعم، تفهمت كلامه، بِعملية حسابية بسيطة ما يجمعه صاحب القشابية في الشهر يزيد 12 ضعفا عن منحة طلبة الجامعة التي يقبضونها مرة كل ثلاثة أشهر، وأكثر مرتين من أعلى دخل بين أساتذة الجامعة.
 كثير من المارة في شارع خميستي كانوا ينظرون للمتسوّل صاحب النظارة السوداء بازدراء كانوا يعرفون أنه يتظاهر بالعمي ليكسب تعاطف الناس ويأخذ مالهم، أما صاحب القشابية فقد كان يكسب تعاطف الناس تلقائيا، كان ذلك يجعل فرصته في الحصول على المال أكبر... التسوّل قد يُكسب تعاطف الناس، لكنه لا يُكسب احترامهم، صاحب المطعم يدرك ذلك، لكن ضيقه من زبونه سببه أنّه يعمل ويتعب طيلة أيام الأسبوع بينما صاحب القشابية يتسوّل في الخارج ويجني من المال ما لا يجنيه المطعم.
تسول الضرير أثار  استياء صاحب المطعم وضيقه، فماذا لو كان المتسوّل بصيرا قادرا على العمل مثل ذاك الذي في شارع خميستي، أليس من المُعيب أن يتسوّل القادر؟
صفوت صافي