السبت، 19 مارس 2016

حتى لا تموت القضية وحتى يبقى أمل التحرير والعودة قائما..

قضية وقت وسيسقط البعد الديني للقضية الفلسطينية، بتُ واثقا من ذلك في هذا العالم المتصل، حيث المعلومة متاحة للجميع، سيحدث ذلك حتما.

من جهة نتائج التنقيبات الأثرية التي فشلت في إيجاد دليل واحد يثبت حدوث القصص الدينية في فلسطين والتي اكتشقت أن آثار هذه المنطقة تروي تاريخا مختلفا تماما، ومن جهة أخرى الأبحاث والأعمال المُنصبة على دراسة تاريخ الجزيرة العربية عموما واليمن خصوصا ستفكك ألغاز تلك الأساطير والحكايا التي اتخذها رجال الدين والساسة على مرّ العصور أرضا خصبة لرمي بذور هيمنتهم وسيطرتهم.

خلاصة هذه الأبحاث تقول أن قصص التوراة لم تحدث في فلسطين وأن كل ما بنيّ عليها لاحقا هو باطل، وأن هذه القصص ليست إلا أساطير أو أحداث جرت في اليمن القديم وأن بني إسرائيل هي قبيلة عربية قديمة جدا، ولا علاقة للصهاينة الذين يحتلون فلسطين الآن لا بتلك القبيلة ولا باليمن وبالجزيرة العربية كلها (باستثناء اليهود العرب من أصول يمنية أو غيرها).

هذه المعلومة ليست سرا ولا حكرا على أحد، فبحسب كثير من المقربين من الراحل ياسر عرفات يؤكدون أنه كان يعرف ذلك، بالإضافة إلى أن كثيرا من الكتب والأبحاث في هذا المجال قد وضعت بين أيدي كثير من القيادات الفلسطينية الحالية، لكن ذلك لم ولن يدفعهم في الوقت القريب لتحريك الموضوع سياسيا أو أكاديميا لخشيتهم من عواقبه من جهة ولخوفهم من فقدان البعد الديني للقضية الفلسطينية من جهة أخرى.

وشخصيا أعتقد أن بداية التغيير ستأتي من الجهة الأخرى، فأعمال شلومو ساند وإسرائيل فنكلشتاين وزئيف هرتزوغ تؤسس لنقلة نوعية لتغيير النظرة المبنية على الأساطير إلى نظرة مبنية على لُقى  وأبحاث علمية تؤكد أن لا علاقة نهائيا بين فلسطين وقصص التوراة.

في كتابه إختلاق إسرائيل القديمة يوجّه كيث واتيلام نقدا شديدا للمثقفين الفلسطينيين والعرب متهما إياهم بالتقصير في الدفاع عن تاريخهم المسروق، لكن لحسن الحظ أن أعمال فراس السواح وزياد منى وفرج ذيب وكمال الصليبي وفاضل الربيعي وغيرهم من الباحثين تُشكّل الآن لبنات أساس لاستعادة التاريخ المسروق.

أهمية هذه الأعمال والأبحاث تكمن في تخليص القضية الفلسطينية من البعد الديني الذي يجعلها الأكثر تعقيدا في التاريخ، فهذا البعد الديني يجعلها قضية صراع أديان لا يمكن أن تنتهي إلا عبر حرب إبادة شاملة، وعند التخلص من هذا البعد الديني سيبقى من القضية هيكلها الحقيقي: إحتلال عصابات صهيونية قادمة من دول مختلفة لأرض الشعب الفلسطيني.

عمليات التحرر من الإحتلال خاضتها عدة شعوب في القرن الماضي في شتى أصقاع الأرض، وتمكنت تقريبا كلها من استعادة إستقلالها ومن أشهر نضالات التحرر تلك التي خاضها الشعب الجزائري ضد الإستعمار الفرنسي الذي احتل الجزائر 132 عاما وانتهت بإعلان الإستقلال في 5 جويلية-تموز 1962، ولن يعجز الشعب الفلسطيني عن الحصول على إستقلاله واستعادة حقوقه طالما أن القضية هي احتلال وليست صراع أديان يتورط فيه سياسيا  ودينيا الكثير من أنظمة العالم.

بعد سبع سنوات تقريبا من انطلاق ثورة نوفمبر 1954 الجزائرية ووبعد مفاوضات ايفيان الثانية في آذار مارس 1962 تم إعلان وقف إطلاق النار، وبعد استفتاء الإستقلال تلى الجنرال ديغول إعلان الإستقلال في 5 جويلية-تموز، وعلى إثره تمّ إعلان ميلاد الجمهورية الجزائرية في 25 سبتمبر-أيلول 1962 وغادر تقريبا مليون من الأقدام السوداء أرض الجزائر.

الأقدام السوداء هو المصطلح الذي يُطلق على  المستعمرين الأوروبيين من أصول فرنسية وإيطالية وإسبانية ومالطية وبعضها من أوروبا الشرقية (وكان جزأ منهم يهودا) وأغلبهم من مواليد الجزائر، وقد شكلوا عصابات وارتكبوا مجازر بشعة بعد إعلان وقف إطلاق النار في مارس 1962، ورغم ذلك وبناء على بنود اتفاقية إيفيان أعلن رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة وقتها فرحات عباس أن الجزائر إرث للجميع وأن من يرغب في البقاء في الجزائر سينال حق المواطنة الكامل لا كما كانت سلطات الإستعمار الفرنسي تعامل الجزائريين باعتبارهم مواطنين أقل درجة ضمن ما كان يعرف بنظام الأهالي (الأنديجين).

بعد إعلان الإستقلال غادر مئات الآلاف من الأقدام السوداء الجزائر عائدين إلى أوروبا وغادر معهم "الحَرْكة" وهم عملاء الإستعمار وعائلاتهم، ثم أعلن الرئيس الراحل أحمد بن بلة في 1963 تأميم آخر ممتلكات المستعمرين وعلى مدى عقدين غادرت كل الأقدام السوداء الجزائر.

شخصيا أتخيّل أن نفس السيناريو سيحدث في فلسطين، ستتحول القضية تدريجيا إلى قضية احتلال خالية من أشكال الصراع الديني، وسيخوض الشعب الفلسطيني نضاله من أجل التحرير وسينال إستقلاله في النهاية.

ربما يؤرقني ويؤرق كثيرين غيري، فكرة أن كثيرا من الصهاينة الذين يحتلون فلسطين الآن هم ممن ولدوا على أرضها وصاروا مواطنين "إسرائيليين" تربطهم بهذه الأرض علاقة مختلفة عن التي ربطت آباءهم القادمين من دول أوروبا وغيرها، وأنه أصبح لديهم الآن انتماء تجاه هذه الأرض التي يحتلونها وقصص وذكريات تزيد تعلقهم بها، وبالمقابل نخشى ما نلمسه من فتور في المشاعر والراوبط الذي وصل حد النسيان والتجاهل لدى فلسطينيين في فلسطين وفي الشتات تجاه قضيتهم ووطنهم وآلام شعبهم. لكن قد يكون لنا في حركات النضال والتحرر وخاصة الجزائرية مثال في أن الحق الذي لا ينساه أصحابه سيعود حتما، وسيغادر المغتصبون الأرض طالما أنهم يعلمون بداخلهم أنها ليست من حقهم حتى وإن ولدوا وعاشوا على أرضها سنوات طويلة وطالما لمسوا بأنفسهم بأن هذه الأرض لا تعترف بهم أبناءَ وأنهم لا يشبهون أبناءها الأصليين فسيرحلون.

حتى لا تموت القضية لا مفر من إقصاء البعد الديني عنها، ولا بديل عن لم شمل أبنائها في فلسطين المحتلة عام 48 وفي قطاع وفي الضفة الغربية ومن هم في الشتات تحت مظلة نضال فلسطيني واحد يهدف لاستعادة الحق الفلسطيني كاملا لا ينتهي إلى بتحرير كل فلسطين.