السبت، 30 سبتمبر 2017

أوهام رغبة الاستحواذ على المقدّس

رغبة  الاستحواذ على المقدّس ترواد أغلب المتدينين، ومُتعتهم في ذلك لا يمكن الاستهانة بها فهي وقود البحث والمغامرة من أجل الحصول على كل ما يكرّس الاقتراب والاستحواذ على علاقة خاصة بالمقدّس.

قبل سنوات كنت مستسلما لفكرة أن فلسطين هي أرض قصص اﻷنبياء، وانطلقت من هذه المسلّمة أبحث عن جغرافيا قصص اﻷنبياء مستعينا بالنص القرآني، لا أخفي أني كنت أفعل ذلك تحت رغبة الاستحواذ على المقدس، وكشف أسراره والحصول على بركاته. ومن بين المواضيع التي كنت أبحث عنها فك لغز المكان الشرقي الذي انتبذته مريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) سورة مريم)، والذي وضعت فيه ابنها بالقرب من جذع نخلة وعين ماء.

دير مار سابا بين 1900 و 1920



فكان دير مار سابا المطلّ على وادي الجوز الواقع شرقي القدس (وليس جنوبها كما هو حال بيت لحم) أفضل مكان لهذه القصة، ولم يكن من السهل الاقتناع بأن وجود نخلة ونبع ماء داخل الدير  هو من قبيل الصدفة، ﻷن تلك النخلة هي الوحيدة في المنطقة، ورغم أن النخلة الكبيرة الظاهرة في صور الدير القديمة لم تعد موجودة إلا أن نخلة أخرى صغيرة تنمو مكانها.


نخلة دير مار سابا

بئر مار سابا



عندما سنحت لي فرصة زيارة فلسطين، كان دير مار سابا أحد أهم المواقع التي كنت أرغب في معاينتها، ذهبت إلى المكان، جلست في الكهوف المجاورة، ونزلت إلى الوادي وصعدت إلى الجبل المقابل للدير وتأملت المكان جيدا، ثم صعدت إلى الدير وطرقت الباب وطلبت اﻹذن بالدخول وزيارة المكان، لكن الراهب وبنظرة تعجّب رفض طلبي بالنزول إلى أسفل الدير حيث النخلة، أو الحصول على شربة ماء من النبع  ولم يرُق له أن أطلب ذلك.

نخلة مار سابا الصغيرة


دير مار سابا



لم تشفِ تلك الزيارة غليلي، وواصلت البحث في الكتب وعلى الشبكة العنكبوتية، ووحدها القراءة  جعلتني أكتشف أن المسلّمة التي انطلقت منها كانت خاطئة  وأن وهم امتلاك الحقيقة سيدفعك إلى خداع نفسك وتصديق أي شيء.. النخلة الموجودة في أسفل الدير تمت زراعتها قبل مئات السنين، وكلما ماتت يتم استبدالها بأخرى، والماء الذي في اﻷسفل ليس إلا ماء بئر تُملأ بمياه اﻷمطار عبر قنوات وضعها رهبان الدير الذي لا تصله خطوط المياه ولا  الكهرباء ولا الاتصالات ولا تدخله النساء أيضا حتى يتفرغ الرهبان للعبادة فقط.




كهوف مار سابا



قررت بعدها الرجوع خطوات إلى الخلف، خلف كلّ المسلّمات، والارتقاء إلى أعلى عبر البحث وتنويع مصادر القراءة، من أجل الحصول على صورة أشمل وأكثر قربا من الضالة المنشودة: الحقيقة.

لقد سيطرت رغبة الاستحواذ على المقدس على العلماء التوراتيين فراحوا يجوبون المنطقة بحثا حاملين التوراة في يدّ ومعولا في اليد اﻷخرى، فكان النص هو دليلهم لتعريف اﻵثار ولترجمة النقوش والسجلات لتتلاءم اﻷسماء والأحداث فيها مع النص، والنتيجة كانت تاريخا وجغرافيا تعجّان بالتناقضات، تم استغلالهما سياسيا لزرع كيان غريب عن المنطقة وتاريخها، مما تسبب في زعزعة اﻷمن والاستقرار في المنطقة والتسبب في حروب وكوارث لحقت ولا زالت ببلدانها وشعوبها.

لكن الفرضية المسلّم بها بأنّ فلسطين هي أرض الحدث التوراتي سقطت تحت مطارق البحث العلمي وعلم اﻵثار، فقد أثبتت اللُقى اﻷثرية، بأنه لم يحدث خروج جماعي من مصر القديمة، ولم يحدث غزو على فلسطين ولم تكن هناك مملكة عظيمة والقدس لم تكن موجودة وقتها، وفلسطين كان بها حاميات عسكرية تابعة لمصر القديمة وغيرها من اﻷدلة اﻵركيولوجية التي تنسف حدوث  قصص التوراة في فلسطين، ولا يتمسك بهذه الفرضية إلا شخص متديّن تأسره رغبة الاستحواذ على المقدس، أو باحث يخشى الاعتراف بأنه قد قضي سنيّ عمره بحثا عن وهم، أو من لا يكترث لكون هذه المسلمة حقيقة أو وهمًا.

عدم حدوث قصص التوراة في فلسطين، يعني إما أنها مجرّد أساطير لم تحدث لا في فلسطين ولا في غيرها، وهذا ما ذهب إليه بعض علماء الآثار اﻹسرائيليين والغربيين، أو أنها حدثت في مكان آخر، وهذا ما ذهب إليه عدد من الباحثين العرب.

القسم اﻷول من الباحثين العرب يدفعه في ذلك الرغبة في الاستحواذ على المقدّس تماما مثل علماء التوراة مما سيعرضهم إلى انتهاج وسائل غير علمية في أبحاثهم،  والقسم الثاني همّه إعادة كتابة تاريخ المنطقة بشكل علمي وتحريرها من التاريخ الخاطئ الذي ألصق بها اعتمادا على التاريخ التوراتي والذي تسبب في أغلب الحروب والكوارث التي ألمّت بها.

ونقطة الخلاف الجوهرية بين القسمين، هو أن اﻷول همّه العثور على جغرافيا قصص اﻷنبياء، والثاني يريد تصحيح التاريخ، ولا شك أن إعادة كتابة تاريخ المنطقة لا تخلو من مخاطر، فالبحث عملية تجريبية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ، واحتمالات الوقوع في الخطأ كبيرة جدا خصوصا في التجارب اﻷولى، كما  أن محاولة تغيير المسلمات التي اكتسبت قدسية مع مرور الزمن ستُقابل بمعارضة شديدة من الذين يرفضون اﻷفكار الجديدة  أو من الكسالى الذين دأبوا على وضع كل ما لا يعجبهم تحت مظلة نظرية المؤامرة، أو ممن يخشون التغيير وهم برأيي محقون في خشيتهم ﻷن تغيير تاريخ المنطقة أشبه بعملية جراحية خطيرة مفتوحة على احتمالات مختلفة.

لو أن المستقبل ليس رهينة الماضي والحاضر لما احتجنا لتصحيح التاريخ، لكن من أجل مستقبل أفضل  وأكثر أمنا ورخاء ﻷبناء المنطقة والعالم لا مفر من إعادة كتابة تاريخ المنطقة بطريقة علمية بعيدة كل البعد عن رغبات الاستحواذ على المقدّس، فهذا التاريخ المشوّه قد أنهك الجميع ويجب التخلص منه، ويجب التخلص من أوهامه، فلا يمكن أن يكون للصهاينة حق لا في فلسطين ولا في غيرها، ولن تكون نتائج إعادة كتابة تاريخ المنطقة إلا في سياق عملية تحرُّر من التاريخ التوراتي.


الخميس، 21 سبتمبر 2017

الحدث التوراتي عند فراس السواح


الحدث التوراتي والشرق اﻷدنى القديم: هذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه من اﻷعمال التي تكرّس ارتباط الحدث التوراتي بالمنطقة الجغرافية المحصورة بين نهري النيل والفرات،  وقد وضعه مؤلفه فراس السواح ردّا على ماء جاء في كتاب كمال الصليبي الثوري؛ التوراة جاءت من جزيرة العرب ، الذي  رفض فيه التناقضات التي سببها إسقاط الحدث التوراتي تاريخيا وجغرافيا على المنطقة الواقعة بين نهري النيل والفرات وقدم فيه اﻷسباب التي تدفعه إلى رفض هذا اﻹسقاط ومن ثمّ البحث عن مسرح جديد لقصص التوراة، ولانعدام اﻷدلة اﻷركيويلوجية ( اﻵثار) قرر أن يخوض تجربة المقرابات اللغوية وهي تجربة محفوفة بالمخاطر ،وباحتمالات الوقوع في الخطأ، من أجل العثور على مسرح شبيه من حيث اﻷسماء بالمسرح الذي ترسمه التوراة ﻷحداثها، فكانت عسير المسرح الجديد الذي اقترحه الصليبي وتحلى بالشجاعة اللازمة لطرح أفكاره في كتاب تلقاه باحث حصيف ورزين مثل فراس السواح ليقدّم للباحثين والقراء كتابا ثريا بنقاط الخلاف الرئيسية حول تاريخية الحدث التوراتي وجغرافيته.

السواح والصليبي يمثلان هنا اتجاهين مختلفين في طريقة التعامل مع الحدث التوراتي وجغرافيته، فالسواح يقول أن أحداث التوراة مثل قصص اﻵباء (إبراهيم واسحق ويعقوب) لها طابع غير تاريخي أي أنها تندرج ضمن أساطير وملاحم الشعوب، لكنه يرجح وجود أساس واقعي لها (ص196) ، ونفس الشيء بالنسبة لقصة الخروج من مصر فرغم عدم وجود أدلة أركيولوجية عن الخروج ولا حتى عن الدخول الذي تلاه إلى بلاد كنعان التي يعتبرها فلسطين، لكن السواح يرجح أن الخروج قد قامت به مجموعة صغيرة من اﻷُجراء فَرَّت بشكل سلمي أو سُمِح لها بالخروج والعودة من حيث أتت (ص198)، وأن الدخول إلى بلاد كنعان عبر أريحا "من المرجح أنه تم بشكل بطيء وسلمي في معظم اﻷحوال وعلى فترات طويلة سمحت للقادمين بالاختلاط مع المقيمين في اﻷرض واستيعاب ثقافتهم… ومن المؤكد أن السيطرة القصيرة لﻹسرائيليين في مملكتي السامرة ويهوذا، لم تكن إلا سيطرة سياسية لا تعكس بالضرورة تفوقا عدديا" (ص200 و201).

أما المملكة الموحدة (شاول وداوود وسليمان..) فيقول السواح أنها لم تكن سوى مملكة صغيرة لا تزيد رقعة ومنعة عن ممالك بلاد الشام القائمة في ذلك العصر (ص 206 و207)، لكن في مرحلة المملكة المنقسمة والانهيار يأخذ الخيط التاريخي يتوضح تدريجيا بين الخيوط المتشابكة للسرد الملحمي حتى توصل محررو التوراة إلى محاولة ناجحة جزئيا للتوثيق التاريخي(ص208).

أما الصليبي في كتابه التوراة جاءت من جزيرة العرب فيصف التوراة بأنها "نصوص قديمة لم تُحل رموزها التاريخية والجغرافية بعد" (ص295)، ويعتبر أن منطقة عسير هي مسرح مناسب لهذه القصص وأنه بعد بعض المقاربات اللغوية وتبديل الحروف سنحصل على أسماء شبيهة بأسماء التوراة، ويمكن لاحقا أن ينجلي الغموض الذي يشوب التاريخ التوراتي.

ويرى السواح أن نقل الصليبي لجغرافيا الحدث التوراتي إلى منطقة غرب شبه الجزيرة العربية التفافة بارعة على فشل التنقيبات اﻷركيويلوجية في اثبات التاريخ التوراتي في فلسطين، وبالتالي فإن الصليبي يقوم بحماية المرويات التوراتية من أية مقارنة جدية مع علم اﻵثار وعلم التاريخ ﻷن المنطقة الجديدة مجهولة تماما من الناحية التاريخية واﻷركيولوجية (ص 5)، بالمقابل يُصر السواح على صحة جغرافيا التوراة وارتباطها ببلاد الشام رغم تناقضها مع مرويات التوراة لكنها برأيه تتفق جزئيا مع بعض أحداثها وخصوصا ما قبل الانهيار .


إذا نظرنا للخلاف بشكل موضوعي سنكتشف أن الخلاف الحقيقي بين السواح والصليبي هو جغرافي وليس تاريخي، فكلاهما يشكك بصحة التاريخ التوراتي في المجمل ويعتبر قصصه قصصا مبهمة، ويعتبر أن نقطة الانطلاق لقراءة التوراة هو تحديد الجغرافيا أولا.

قبل الخوض في مراجعة سريعة ﻷهم القضايا الخلافية التي ناقشها فراس السواح في كتابه الحدث التوراتي في الشرق اﻷدنى القديم، سأقدم بشكل موجز رؤيتي الخاصة لمشكلة الحدث التوراتي واحتماليات صحته وخطئه والجغرافيا الممكنة لهذا الحدث.


لقد تناول رجال دين من مختلف اﻷديان ومؤرخون وكتّاب من مختلف التخصصات على مدى قرون قصص الحدث التوراتي وسلّموا بنقطتين رئيستين:

- التوراة كتاب تاريخ أحداثه صحيحة
- المنطقة الفاصلة بين نهري النيل والفرات هي المسرح الجغرافي لهذه اﻷحداث

انطلاقا من هاتين المسلمتين تم وضع آلاف المؤلفات التي رسخت المسلمتين وكرستهما أكاديميا وأصبح من الصعب بل ومن الخطير التشكيك فيهما.

وفي القرنين التاسع عشر والعشرين قام عدد ممن يُطلق عليهم علماء اﻵثار التوراتيون الذين يؤمنون بشكل مطلق بصحة المسلّمتين التاريخية والجغرافية بعمليات تنقيب وبحث في فلسطين وبلاد الشام بشكل عام نتج عنها عمليات إسقاط لمواقع تورراتية على جغرافيا المنطقة واستخدام مقاربات لغوية كالتي استعملها الصليبي لربط أحداث التوراة والأسماء الواردة فيها بأحداث وأسماء وردت في نقوش وسجلات المنطقة وتم تكديس فرضيات بورود أسماء توراتية في النقوش والسجلات الآشورية والمصرية القديمة وغيرها من نقوش المنطقة، وتحولت هذه الفرضيات إلى نظريات يصعب نقدها ولها مدافعون يرفضون التشكيك فيها.

لكن في العقود اﻷخيرة كشفت اللُقى اﻷركيويلوجية في المنطقة عن مشكلات كبيرة في الرواية التوراتية وفي الإسقاط الجغرافي الذي حصل، فكثير من اﻷحداث أصبحت في ظل هذه اللُقى مستحيلة الحدوث، وأن بعضها فقط يمكن أن تتوافق مع آثار المنطقة مما يترك احتمالات حدوثها واردا.

وهذه اﻷحداث المستحيلة كثيرة ويمكن ذكر بعض منها في ما يلي:

- قصة دخول اﻵباء المؤسسين إلى فلسطين في اﻷلفية الثانية قبل الميلاد والسبب عدم وجود أي دليل بيولوجي على وجود الجِمال في تلك الفترة في فلسطين.

- استحالة حدوث خروج جماعي بالشكل الذي تصفه التوراة في القرن 13 ق.م والسبب أن الأدلة اﻷركيولوجية تشير إلى أن فلسطين في تلك الفترة كانت تابعة إداريا لدولة بلاد النيل أو القبط قديما (مصر حاليا) بالإضافة إلى وجود حاميات عسكرية على طول الطريق وعدم وجود أي دليل على عملية انتقال بشري في المنطقة في تلك الفترة وعدم تسجيل حدث عظيم كهذا في دولة تحفل سجلاتها بأدق التفاصيل منذ آلاف السنين.

- استحالة حدوث غزو إسرائيلي كالذي تصفه التوراة لمنطقة الضفة الغربية في فلسطين، لعدم وجود دليل أركيولوجي واحد يؤكد حدوث دمار أو أي تغير في نمط حياة الناس الذين كانوا يقطنون هذه المنطقة في تلك الفترة.

- استحالة قيام مملكة عظيمة كالتي تصفها التوراة في عهد سليمان واستحالة أن تكون القدس عاصمة لهذه المملكة والسبب أعلن عنه في الآونة اﻷخيرة علماء آثار إسرائيليون وأوروبيون أكدوا أن القدس لم تكن موجودة قبل القرن 7 قبل الميلاد وبالتالي فإن أي قصص في التوراة قبل هذا الزمن لا يمكن أن تكون قد حدثت في هذه المنطقة، وبالتالي فقصة هيكل سليمان وكل ما ترويه التوراة على لسان اﻵباء من إبراهيم إلى اسحق وإلى يعقوب عن هذه المدينة أصبح في مهبّ الريح.


أمام هذه اﻷدلة التي قدمها علم اﻵثار على أيدي علماء آثار صهاينة وأوروبيين (وليس فلسطينيين أو عرب) انقسم المختصون والباحثون في هذا المجال إلى قسمين:
- قسم متديّن يؤمن بشكل مطلق بصحة الحدث التوراتي ويعزو سبب أي يتناقض مع الحدث التوراتي إلى خطأ في التفسير واﻷبحاث.
- وقسم آخر تيّقن من الصفة اﻷسطورية لقصص التوراة كما فعل الباحثان إسرائيل فنكلشتاين ونيل سيلبرمان في كتابهما التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها، لكن دون أن يدفعهما ذلك إلى التشكيك مطلقا في جغرافيا التوراة،

ورغم استحالة وقوع أحداث التوراة في المنطقة إلا أن اسقاط أحداث التوراة وجغرافيتها وأسمائها ستبقى آثاره فترة طويلة ، وستبقى أسماء العبرانيين والكنعانيين والفلستيين القادمين من البحر والعمونيين والمؤابيين وفرعون مصر وغيرها من اﻷسماء مرتبطة بتاريخ المنطقة وسيصعب كتابة تاريخ آخر للمنطقة بعيدا عن هذه اﻷسماء التوراتية والقصص المرافقة لها.

رياضيا احتمالات التعاطي مع المسلّمتين محدود، فإما أن تكون مسلمتا الحدث التوراتي  صحيحتان بشكل كامل وهذا ما يعتقده علماء اﻵثار والباحثون المتدينون،  أو أن تكون مُسلّمة الحدث التوراتي التاريخية أسطورية في معظمها وصحيحة في جزء منها ومُسلّمة الجغرافيا صحيحة مع حاجتها لبعض التعديلات.. وهذا ما يعتقده بعض علماء اﻵثار والباحثين غير المتدينين مثل إسرائيل فنكلشتاين وشلومو ساند وفراس السواح.

أو أن تكون مسلّمة الجغرافيا خاطئة وبالتالي يجب العثور على جغرافيا بديلة وسيختلف حينها التعاطي مع تاريخية أحداث التوراة من باحث ﻵخر (حسب تديّّن الباحث وإيمانه بحدوث قصص التاوراة) مما سيفتح المجال لاحتملات عديدة، وأهم المسارح الجغرافية البديلة المقترحة هي:
- منطقة عسير وقد عمل على إثبات صحة هذه الفرضية في عدد من الكتب كمال الصليبي وأحمد داوود وزياد منى وبعض الباحثين القرآنيين
- اليمن وعمل على إثبات صحة هذه الفرضية فرج الله صالح ديب وفاضل الربيعي وأحمد الدبش وأحمد عيد في عدد لا بأس به من اﻷعمال.

وهذا لا يلغي وجود احتماليات أخرى لمسرح التوراة الجغرافي ممتدة من العراق شمالا إلى إثيوبيا جنوبا مرورا ,بشمال شبه الجزيرة العربية وشرقها ومنطقة نجد.

والاحتمال اﻷخير هو أن قصص التوراة كلها زائفة ولا جدوى من البحث عن جغرافيتها، وسيكون القول الفصل في النهاية لعلم اﻵثار ولعمليات التنقيب التي لم يُفتح لها المجال بعد وما سيتبعها من أبحاث قائمة على المنطق وبعيدا عن المُسلّمات الجاهزة.




تاليا سأناقش بشكل مختصر أهم المواضيع الخلافية التي طرحها فراس السواح في كتابه:

- البينة التاريخية في سجلات مصر الفرعونية:
يقول فراس السواح أن السجلات المصرية القديمة لا تنطبق على الخريطة التي يفترضها الصليبي (ص73) وأن هذه السجلات إنما تروي أحداثا وقعت في بلاد الشام وليس في غرب العربية، ويقدم عدة أمثلة على ذلك من بينها نصا لرمسيس الثاني يخلد فيه معركة قادش، ويورد السواح مقتطفات منه تقول نصا: “السنة الخامسة، الشهر الثالث من الفصل الثالث، اليوم التاسع.. توجه جلالته إلى بلاد زاهي في حملته المظفرة الثانية، نصب معسكره على التلال الواقعة إلى الجنوب من قادش. وعندما أخذ بالتحرك شمالا ووصل إلى بلدة شابوتانا، أتاه اثنان من الساشو وقالا أنهما ينتميان إلى أكبر اﻷسر العاملة إلى جانب ملك الحثيين المهزوم، وأنهما وأصحابهما سيتركون الحثيين وينضمون إلى الفرعون.”

رغم أن كلمة فرعون لم ترد في كل السجلات المصرية فنحن نجدها في الترجمة التي اعتمد عليها السواح، والسبب في ذلك هو أن رمسيس الثاني هو الملك المفترض عند التوراتيين ﻷن يكون ملك قصة موسى الذي عُرف بالفرعون، وعند العودة للمراجع التي تتناول ترجمة هذا السجل نجد أنها تقول التالي: “Pharaoh is the Hebrew pronunciation of the Egyptian pr aA. It means literally ‘great house’”
  أي أن كلمة فرعون هي النطق العبري لكلمة بر ع وهي تعني حرفيا البيت العظيم.
(المصدر: The Battle of Kadesh Part 1 The Disinformation Campaign tr. M. M. Bishop P 16)

والسؤال هنا لماذا علينا أن نقبل بترجمة تتبنى النطق العبري للأسماء وتجعل من رمسيس الثاني فرعون موسى مع يقين الباحثين أن قصة خروج موسى وبني إسرائيل من مصر قصة مستحيلة!؟


- البينة التاريخية في سجلات وادي الرافدين:
يقول فراس السواح أن السجلات اﻵشورية معنية ببلاد الشام حصرًا، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمناطق غرب شبه الجزيرة العربية وأن صيدون وصور وأورشليم وغيرها الوارد ذكرها في التوراة وسجلات آشور هي ممالك بلاد الشام وليست ممالك عسير.

قد يكون السواح محقا في أن هذه اﻷسماء لا دليل أركيولوجي على ذكرها في منطقة عسير، وأن القراءة التي قام بها علماء متأثرون بالقصة التوراتية هم من قرأوا هذه اﻷسماء وقاربوها لتتطابق مع أسماء التوراة، لكن بالمقابل الباحث في نقوش اليمن سيعثر على عدد كبير من هذه اﻷسماء وسأعطي هنا مثالا واحدا فقطعلى ذلك:
فالنقش (Maʿīn 10) من الفترة B (بين القرنين الرابع واﻷول ق.م) يذكر حرفيا:
ywm rtkl Ddn w-Mṣr w-Ṣr w-(Ṣ)[ydn ... ...ʿṯtr ]ḏ-Yhrq w-b Ḥfn Yṯʿ mlk Mʿn
والترجمة باللغة اﻹنجليزية:
when he traded with Ddn, Mṣr, Tyr and Sidon ... ʿṯtr ḏ-Yhrq, and by Ḥfn Yṯʿ, king of Maʿīn

والترجمة العربية: “عندما تاجر مع ددن، مصر، وصور ، صيدون …. اثتر ذ يهرق وبواسطة حفن يثع ملك معين”

فما علاقة صور وصيدون بمعين اليمن وبمصر التي وردت بصيغة ( Mṣr) كما وردت في التوراة وليس كما أراد لها المترجمون المتأثرون بالقصة التوراتية وحولوها إلى إيجيبت (Egypt)

وبناء عليه لا يمكن القول بأن السجلات اﻵشورية معنية ببلاد الشام حصرا، فلِما لا تكون اﻷسماء الواردة في السجلات اﻵشورية يمنية، ولما لا يكون أسماء الملوك الواردة في هذه السجلات من اليمن أيضا؟

ولحسن الحظ أن فاضل الربيعي منكب في اﻵونة اﻷخير على مجموعة من اﻷعمال التي تبحث عن العلاقة بين النقوش اليمنية والسجلات اﻵشورية والمصرية القديمة والتوراة في عملية بحث محفوفة بالمخاطر، فما يقوم به مفردا يحتاج لجهد كبير وﻹعادة ترجمة وقراءة هذه النقوش والسجلات بعيدا عن القراءة المتأثرة بالتوراة، وهو عمل يحتاج لمجموعة كبيرة من الباحثين وليس لفرد واحد، لكن هذه اﻷعمال ستشرع حتما الباب نحو جدل حوار علمي وأبحاث أخرى .


- بئر السبع
يقول فراس السواح بئر السبع لم يكن أبدا من المواقع التوراتية البارزة ولم يتربط بأي حدث تورراتي هام (ص 135) وقد قال ,ذلك منتقدا اهتمام الصليبي بالمكان واتخاذه من الاشكالات اﻷركيولوجية لهذا الموقع نقطة انطلاق للتشكيك في صحته والبحث عن بديل له في عسير.

بالمنطق الصليبي مصيب جدا في اهتمامه  ببئر سبع فالمكان عند التوراتيين ذو أهمية عالية وليس كما يزعم السواح، فالمكان تم اختياره ليكون بجانب تل أبو محفوظ واﻵثار الموجودة به لا تعود لفترة اﻵباء حتما، واختيار هذا المكان من علماء اﻵثار التوراتيين كان بسبب بحثهم عن مكان وسيط بين منطقة حبرون (الخليل) وشكيم (نابلس) ودولة مصر الحديثة لاعتقادهم أنها مصر التوراة، لدرجة أن أحد الباحثين إسمه ويليام ميلور ثومسون قام بإعادة حفر بئر يعود للفترة البيزنطية وزعم أنه بئر إبراهيم الذي أخذه من ملك جرار في القصة التوراتية، وصار هذا البئر مزارا في متحف بئر السبع. كما أن وجود بئر سبع في هذا المكان تحديدا يخلق مشكلات كبيرة وتناقضات لا حصر لها في القصة التوراتية وإسقاطها على فلسطين، وخصوصا وأن بئر سبع التوراتية كان يقطنها اﻹسماعيليون وهي ذاتها التي حدثت بها قصة هاجر وإسماعيل والماء الذي تفجر والتي مكانها عند المسلمين بئر زمزم في مكة .

والغريب والمؤسف حقا في مضوع أماكن المواقع التوراتية أن يعتمد فراس السواح على نتائج أبحاث كاثلين كينيون وويليام ألبرايت وهما باحثان كرسا حياتهما لترسيخ القصة التوراتية، وساهما بشكل كبير جدا في عمليات التزوير التي لحقت بتاريخ المنطقة، واﻷمثلة على ذلك كثيرة من تنقيبات أريحا إلى تل بلاطة التي عمل على التنقيب فيها تلميذ ألبرايت الدكتور رايت والتي اعتبرها شكيم التوراتية وغيرها الكثير من المواقع الفلسطينية التي تم اعتبارها مواقع توراتية، ويقول السواح نصا: “سيكون اعتمادنا في المسألة اﻷركيولوجية على عالمة اﻵثار البريطانية كاثلين كينيون التي نقبت في عدد من المواقع الفلسطينية.



- أورشليم حاضرة كنعان:
وفي باب أورشليم حاضرة كنعان يقول أن اسم أورشليم ورد في نصوص مصرية ترجع للقرن التاسع عشر (ص141) وخصوصا في ما يدعى بنصوص اللعنات، ويقول أيضا أن أورشليم الكنعانية اليبوسية البالغة القدم لم يعثر عليها المنقبون إلا بعد أن تحولوا عن الموقع الحديث لمدينة القدس وبدأوا التنقيب خارج اﻷسوار نحو المنطقة الجنوبية.

من حسن حظ القضية الفلسطينية أن عددا من باحثي اﻵثار اﻹسرائيليين واﻷوروبيين بعد حملات التنقيب المتعاقبة منذ احتلال مدينة القدس في 1967 أقروا بأنه لا علاقة للمدينة بأورشليم التوراتية وأن المدينة لم تكن موجودة قبل القرن السابع ق.م بل إن الباحثة مارغريت ستينر التي عملت مع كيثلين كينيون التي يعتمد عليها السواح في كتابه قالت في تقرير عن نتائج التنقيبات في القدس حرفيا:لا بقايا لمدينة، وإن كانت هناك مدينة في أي وقت مضى فلا أثر لأسوارها، ولا لأي من بواباتها، ولا منازلها. ولا قطعة واحدة من العمارة فيها. ببساطة لا شيء(المصدر : http://www.truthbeknown.com/jerusalem.htm)
وقد تكلّل فشل المنقبين في العثور على أورشليم التوراة في القدس بصدور قرار اليونيسكو الذي اعتبر الصهاينة أنه ينسف أي علاقة للمدينة بالتاريخ اليهودي وبقصص التوراة.

ولا يخفى على الباحثين المضطلعين على النص التوراتي أن التوراة تضع أورشليم على قمة جبل، والأمثلة على ذلك في التوراة كثيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما ورد في سفر إشعياء 27: 13
وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِبُوق عَظِيمٍ، فَيَأْتِي التَّائِهُونَ فِي أَرْضِ أَشُّورَ، وَالْمَنْفِيُّونَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَيَسْجُدُونَ لِلرَّبِّ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ فِي أُورُشَلِيمَ.

ووببساطة وبالنظر للخرائط الطوبوغرافية التي ألحقها فراس السواح بكتابه دعما لدفاعه على أن القدس هي أورشليم سيظهر جليا أن ارتفاعات الأماكن المشار إليها في الخرائط والتي كان المنقبون يبحثون فيها عن أورشليم كانت بحدود 600 متر، فأي جبل هذا الذي يبلغ ارتفاعه 600 متر؟


- الفلستيون
تقول التوراة في سفر يشوع: أَقْطَابِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْخَمْسَةِ هم: الْغَزِّيِّون وَالأَشْدُودِيّونِ وَالأَشْقَلُونِيّونِ وَالْجَتِّيّونِ وَالْعَقْرُونِيّونِ.

ويقول السواح اعتمادا على كاثلين كينيون أنه تم التعرف على مدن الفلستيين الخمسة (ص189) والسبب في ذلك هو ظهور خزفيات تعود للقرن 12 ق.م تشبه خزفيات بحر إيجه وتنعدم كليا في المناطق الداخلية أي بقية فلسطين.

ولحسن الحظ أيضا أن اللقى اﻷثرية في فلسطين تثبت عكس ذلك، فقد ذكر عدد كبير من باحثي اﻵثار أنه تم العثور على تشابه في اﻷواني الفخارية المستخدمة في الساحل الفلسطيني والوالمناطق الداخلية، وقد تم العثور قبل سنوات على مقبرة كبيرة في عسقلان تعود للفترة التي يفترض العلماء التوراتيون أنها فترة الفلستيين القادمين من البحر والذين احتلوا الساحل الفلسطيني، والتي كشفت أن الصورة النمطية التي وضعها التوراتيون عن الفلستيين لا علاقة لها إطلاقا بصفات أصحاب قبور عسقلان.

- الخروج ومسألة مصر
رغم استحالة حدوث خروج جماعي لبني إسرائيل من مصر استنادا على اﻷبحاث اﻷركيولوجية ، نجد فراس السواح يقول أن آراء المؤرخين تتفق على أن الخروج قد تم في عهد الفرعون رمسيس الثاني حوالي 1260 ق.م، ﻷن رعمسيس الواردة في التوراة قد بناها رمسيس الثاني، ثم يقول أن جبل حوريب يقع في سيناء ﻷن ذلك يتطابق مع الرواية التوراتية ويقول: نقرأ في سورة التين "وطور سنين وهذا البلد اﻷمين” وفي سورة المؤمنين "وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين”.

وبهذا الشكل يصبح المستحيل ممكنا فالسواح يرجح أن الخروج قد قامت به مجموعة صغيرة من اﻷُجراء فَرَّت بشكل سلمي أو سُمِح لها بالخروج والعودة من حيث أتت (ص198)، وبالتالي فإن مصر بصيغة اﻹسم التي وردت في النص التوراتي والتي لم تعرفها بلاد النيل إلا بعد هذا الزمن بمئات السنين صارت هي مصر التوراة.

وتجدر اﻹشارة هنا أن مصر كما وردت في التوراة وردت في عشرات النقوش اليمنية القديمة (Mṣr) ووردت إلى جانب كلمة إسرائيل في النقش (CIH 543).

وأمام استحالة حدوث الخروج من دولة مصر الحديثة باتجاه اﻷردن وفلسطين أركيولوجيا مقابل ورود كلمة مصر في عشرات النقوش اليمنية القديمة فقد اتجه عدد من الباحثين لنقل جغرافيا الحدث التوراتي إلى اليمن بدل الشرق اﻷدنى الذي يصر اللاهوتيون على مدى قرون وفراس السواح في هذا الكتاب أنه مسرح الحدث التوراتي.


للأسف الشديد نحن الباحثون والمفكرون العرب لا زلنا نعتمد بشكل مطلق على التاريخ الذي كُتب لنا استنادا على قصص متأثرة بالتاريخ التوراتي ، وعلى نتائج أبحاث علماء ومؤرخين تتلمذوا في جامعات تعتمد هذا التاريخ التوراتي وحتى من قرروا منهم التخلص من تناقضات التاريخ التوراتي لم يستطيعوا فعل ذلك بشكل كامل، ولم يتبادر لذهنهم أبدا نقل جغرافيا الحدث التوراتي من فلسطين إلى مكان آخر.

نحن بحاجة ﻹعادة قراءة نقوش وسجلات المنطقة كلها بعيدا عن تأثيرات التاريخ التوراتي، ويجب أن يتم ذلك بشكل علمي وموضوعي، فليس بالضرورة أن تكون السجلات اﻵشورية تتحدث عن بلاد الشام حصرا كما يقول فراس السواح في كتابه، ولا .يمكن القول أنها تتحدث فقط عن عسير أو عن اليمن، بل يجب التعامل بطريقة علمية بحتة.

وللخروج بنتائج علمية صحيحة تعيد للمنطقة تاريخها الحقيقي وتجنبها ما حصل لها من عواقب التزوير الذي لحق بتاريخها من حروب ومآس، لا مفر من بناء قاعدة بيانات كبيرة تجمع كل نقوش وسجلات المنطقة بحيث يتم تفريغ كل اﻷسماء الواردة فيها مرفقة بكل الترجمات الممكنة والمواقع المحتملة وترتيبها وفق أزمنة النقوش واﻷماكن وأسماء الملوك الواردة فيها ، وبواسطة تطبيقات ذكية وخوارزميات خاصة يمكن تحليل المعطيات والخروج بنتائج علمية ستساهم حتما في التمييز بين التاريخي واﻷسطوري وفي ضبط أغلب المواقع المذكورة في النقوش والسجلات، وسيوفر ذلك الكثير من الجدل الدائر وسيساعدنا في أن نصبح كتبة تاريخ بدل أن نكون مدافعين عن تاريخ ُكتب ولا زال يُكتب لنا.