في عام اثنين وثمانين سافرت وعائلتي إلى الشام، لم تكن في وقتها رحلات مباشرة من الجزائر إلى عمّان، أقمنا بضعة أيام في دمشق، لم تكن تلك أولى الرحلات ولا آخرها، ولطالما حَمّلتني الشام ذكريات منها.
من تلك الرحلة حَملت بعض الذكريات، لكن أكثر ما أذكره مشهدان ارتسما في لوحتين طُبِعتا على جدار الذاكرة.
في المشهد الأول كنت أسير بصحبة والدي في أحد شوارع دمشق، عندما تسللت رائحة جذابة إلى أنفينا، لقد كانت أقوى من أن نقاومها... لقد جعلتنا نشعر بالجوع الشديد، فاستسلمنا سريعا.
كان مطعما صغيرا لبيع شطائر الفلافل، كان المكان مكتظا، اشترى والدي شطيرتين، وكان المطعم يقدّم أكواب لبن أيضا، فطلب والدي اثنين. أكلنا بِنَهم شديد.... كان طعم الفلافل الساخنة يمتزج مع اللبن البارد ويذوب في الفم وينساب... كانت كمية اللبن مناسبة جدا لحجم الشطيرة، أو هكذا هيُّئ لي فوزعت عدد رشفات اللبن بما يتناسب مع عدد اللُقم. لا أذكر أنني رفعت رأسي وأنا آكل إلا بعد أن أنهيت الشطيرة. لم يكن ذلك جوعا، لقد كان طعمها لذيذا فعلا..
ما أن أنهيت شطيرتي رفعت عيني تجاه والدي وكان هو أيضا ينظر إلي.. لم يكن باديا عليّ الشبع، فابتسمت عينا والدي وسألني: "كمان؟" فضحكت وأجبت سريعا "كمان"، فعاد والدي ووقف في طابور الزبائن واشترى لنا شطيرتين ودون أن ينسى كوبي لبن آخرين.
التهمناهما بنفس الاستمتاع.. كنا نتبادل النظرات ونضحك. كان مشهدا رائعا اجتمع فيه طعم الفلافل الساخنة مع اللبن وضحكاتنا أنا وأبي... شعرت بسعادة غامرة لا تنسى في تلك اللحظة.
أما في المشهد الثاني فكنت برفقة والدي أيضا، كان في الشارع باعة يفترشون الأرض يبيعون أشياء مختلفة، أحدهم كان كبيرا في السن، جذبت انتباهي بضاعته، ألعاب بألوان مختلفة بعضها متحرك ويُصدر أصواتا.. واصلنا المسير وبقيت عيناي تتفحص الألعاب زمنا، ثم وقفنا في مكان غير بعيد ربما لننتظر وسيلة نقل. في تلك الأثناء مرّ رجل طويل مفتول العضلات يلبس زيّا عسكريا مرقطا، وفي قدميه جزمة سوداء عالية، ويضع السروال داخلها، كُمّا القميص كانا مثنِيَيْن ومرفوعين فوق المرفقين، قبعة "البيريه" كانت حمراء مائلة فوق رأسه، كان يمشي مختالا.. كان منظره يدعو للإعجاب.
تابعته بعيني فترة من الزمن، ثم انتقلت عيناي لمشاهد أخرى في الشارع، ففي الشام لا يمكنك إلا أن تمتع ناظريك بما حولك. وفجأة سمعت رجلا يصرخ ويقول: "يا سِيدي، يا سِيدي" (بكسر السين ومدّ الدال)، كان ذلك صوت الرجل بائع الألعاب، كان لا يزال جالسا على الأرض، وكان يقف أمامه ذلك الرجل صاحب الزي العسكري الأنيق... لم أكن أسمع كلام الجندي، كنت فقط أسمع صوت الرجل الكبير وهو يتوسل، كان ينظر للجزمة ويتوسل وظل يردد يا سيدي يا سيدي، لم يشفع له توسله، رأيت الجزمة تركل فخذه، وبطنه، استلقى على الأرض والتف حول نفسه ليتخذ من تلك الوضعية درعا، وظل يصرخ ويتوسل، لم تمنع تلك الوضعية ولا توسلاته ركلات الجزمة..لقد رأيت الجزمة تضرب وجهه، ورأيت الدم يسيل من فمه... تلاشى كل شيء في ذلك الشارع ، لم أكن أرى إلا الرجل الكبير والجزمة... كان الشارع يعج بالمارة لكن أحدا منهم لم يحاول التدخل، لم يرغبوا في إزعاج العسكري ذي الزي المرقط... كان المشهد معقّدا جدا: شارع يعج بالمارة رجل قوي يضرب رجلا ضعيفا كان يبيع ألعابا على قارعة الطريق، لا أحد من المارة يتدخل... شعرت برغبة شديدة في الصراخ والبكاء.. كنت فقط أسأل: "ليش ليش؟"
لقد كنت صغيرا، بقي ذلك المشهد المعقّد راسخا في ذاكرتي... أستحضره في كل مرة أرى أو أسمع أخبار ظلم العسكر للناس. وأيضا المشهد البسيط في مطعم الفلافل الصغير، طعم الفلافل مع اللبن وضحكة أبي، بقي راسخا.. لدرجة أني في كل مرة أشتري شطيرة فلافل أطلب من البائع أن لا يضع معها سلطة طحينية وأن لا يضيف المخلل عليها، وأحاول أن أحصل على بعض اللبن لعلي أحصل على طعم كالذي تذوقته في الشام وأستذكر تلك اللحظات السعيدة مع والدي رحمه الله.
صفوت صافي