كان يقف عند مخرج سوق "لاباستي" في وهران الباهية، كانت عيناه غائرتين، لم يكن بحاجة لنظارات سوداء ليثبت للناس أنه ضرير، مثل المتسول الذي كان يجلس في شارع خميستي، فقد كان يسترق النظر عندما يلقي أحد المارة قطعة نقطية في الطبق أمامه ويتحرك رأسه تلقائيا متتبعا أنثى فاتنة القوام.
كان ضرير لاباستي يرتدي قشابية (جلابة من صوف) سوداء اللون يخفف من لونها الداكن خطوط متباعدة تنساب من الكتفين إلى أسفل فتمنح من يلبسها مظهرا أنحف، كان عمره مرسوما على تجاعيد وجهه، ومسموعا في نبرات صوته وهو يطلب العون.. كثير من الناس كانوا يلتفتون لنداءه ويجودون بما بقي في جيوبهم من قطع نقدية بعد شراء حاجاتهم من سوق لاباستي.
في يوم دخلت أنا وأصدقائي إلى أحد مطاعم شارع لاباستي، كانت حالة محافظنا يومها تسمح بهذا الترف، اتخذنا من طاولة في الزواية الداخلية موقعا لنا، جلست أنا في الزاوية، حيث مجال الرؤية أوسع. كان صاحب المطعم يجلس خلف طاولة مرتفعة بجانب الباب، وظهره للجدار، والمطعم أمام ناظريه. كان على الطاولة الأولى أمامه رجل يرتدي قشابية سوداء مخططة، إنه الرجل الضرير يتناول وجبة غذاء، طبقٌ من اللوبيا البيضاء المطبوخة مع رُبّ الطماطم واللحم وبجانبها سلة صغيرة بها قطع دائرية الشكل من الخبز الفرنسي.
أسعدني المشهد كثيرا، رجل مُعْوِزٌ يجلس في مطعم يتناول وجبة غذاء، صاحب المطعم بالكاد يتحرك، يدخنّ سيجارته بتأنّ، التفت باتجاهي وانتبه أني أنظر إليه فابتسم بوقار وأومأ برأسه ثم عاد لينظر أمامه، شعرت بغبطة شديدة، أخذت أتأمل وجه صاحب المطعم لعلي أُثري فراستي بتقاطيع أصحاب القلوب الطيبة، كان أسمر اللون، صغير العينين، بأنف مائل نحو الأعلى باستدارة خفيفة لا حدة فيه، ورأسٍ هجر الشَعر معظمه... قلت في نفسي ما أكرم هذا الرجل وما أطيبه، حتما هذه ليست أول مرة ولن تكون الأخيرة، هذا الرجل الوقور معتاد على إكرام الفقراء.. لو كَثرَ أمثاله لما بقي بين الناس محتاج.
قام الرجل صاحب القشابية المخططة، واتجه بدون عناء إلى طاولة صاحب المطعم، ذلك أكدّ حدسي بأنه يرتاد المطعم كثيرا وبات يعرف المكان جيّدا، زاد احترامي لصاحب المطعم، راقبت المشهد بلهفة، انتبه صاحب المطعم لاهتمامي، واكتفى بالابتسام مرة أخرى. تبادلا الحديث لكني لم أسمع شيئا، أخرج صاحب المطعم نقودا ورقية من الدرج أمامه وأعطاها لصاحب القشابية، قلت في نفسي يا الله، أي رجل هذا، يُطعم الرجل ويُعطيه مبلغا كبيرا من المال ... وأنا الذي فكرت بأن أطلب منه أن أدفع قسطا من ثمن الوجبة لأساهم في عمل الخير هذا... قررت أن لا أفعل، لن يقبل حتما رجل بهذا الكرم أن أشاطره كرمه. قررت أن أكتفي بتقديم الشكر له وتهنئته على كرم أخلاقه.
انتهينا من تناول طعامنا، لا أذكر ما أكلت يومها، لم تحتفظ ذاكرتي بهذه المعلومة، قصة صاحب القشابية كانت طاغية، اتجهت نحو صاحب المطعم، وقبل أن أبادر بكلمات الشكر، قال بصوت عالٍ: "شفت؟"، قبل أن أرد بالإيجاب أكمل: "كل يوم يأتي إلى هنا، كل يوم"
كان يقول ذلك بحسرة شديدة، لم أفهم سبب حسرته، فقلت بشكل استفهامي: لقد أعطيته الكثير من المال، فانفجر صاحب المطعم مغتاظا، صار فمه أكبر، ظهرت أسنانه السوداء من أثر التدخين، بدت عيناه أصغر، تحوّل هدوءه إلى انفعال ورفع يده مفتوحة الأصابع من أسفل باتجاه الأعلى حتى صارت كف اليد أمام الوجه، رفع حاجبيه وهز رأسه عكس اتجاه حركة اليد وقال: "يا الربّ العالي، شفت شفت؟! هذا الرجل يأتي كل يوم إلى هنا ومعه صرّة مَلأَى بالقطع النقدية، يضعها أمامي، ثم يجلس لتناول الغذاء، أعُدّ القطع وأستبدلها بأوراق نقدية، وأخصم ثمن وجبة الغذاء وأعطيه الباقي، ثم يخرج ويتجه نحو الحمام التركي المجاور، ويعطيه صرّة مماثلة، قال بكثير من التأثر والحسد: هذا المتسوّل يكسب أكثر مني.
أصابتني دهشة شديدة، ومشاعر متضاربة، تلاشى شعور الوقار والتبجيل الذي حملته لصاحب المطعم، تفهمت كلامه، بِعملية حسابية بسيطة ما يجمعه صاحب القشابية في الشهر يزيد 12 ضعفا عن منحة طلبة الجامعة التي يقبضونها مرة كل ثلاثة أشهر، وأكثر مرتين من أعلى دخل بين أساتذة الجامعة.
كثير من المارة في شارع خميستي كانوا ينظرون للمتسوّل صاحب النظارة السوداء بازدراء كانوا يعرفون أنه يتظاهر بالعمي ليكسب تعاطف الناس ويأخذ مالهم، أما صاحب القشابية فقد كان يكسب تعاطف الناس تلقائيا، كان ذلك يجعل فرصته في الحصول على المال أكبر... التسوّل قد يُكسب تعاطف الناس، لكنه لا يُكسب احترامهم، صاحب المطعم يدرك ذلك، لكن ضيقه من زبونه سببه أنّه يعمل ويتعب طيلة أيام الأسبوع بينما صاحب القشابية يتسوّل في الخارج ويجني من المال ما لا يجنيه المطعم.
تسول الضرير أثار استياء صاحب المطعم وضيقه، فماذا لو كان المتسوّل بصيرا قادرا على العمل مثل ذاك الذي في شارع خميستي، أليس من المُعيب أن يتسوّل القادر؟
كثير من المارة في شارع خميستي كانوا ينظرون للمتسوّل صاحب النظارة السوداء بازدراء كانوا يعرفون أنه يتظاهر بالعمي ليكسب تعاطف الناس ويأخذ مالهم، أما صاحب القشابية فقد كان يكسب تعاطف الناس تلقائيا، كان ذلك يجعل فرصته في الحصول على المال أكبر... التسوّل قد يُكسب تعاطف الناس، لكنه لا يُكسب احترامهم، صاحب المطعم يدرك ذلك، لكن ضيقه من زبونه سببه أنّه يعمل ويتعب طيلة أيام الأسبوع بينما صاحب القشابية يتسوّل في الخارج ويجني من المال ما لا يجنيه المطعم.
تسول الضرير أثار استياء صاحب المطعم وضيقه، فماذا لو كان المتسوّل بصيرا قادرا على العمل مثل ذاك الذي في شارع خميستي، أليس من المُعيب أن يتسوّل القادر؟
صفوت صافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق