السبت، 30 سبتمبر 2017

أوهام رغبة الاستحواذ على المقدّس

رغبة  الاستحواذ على المقدّس ترواد أغلب المتدينين، ومُتعتهم في ذلك لا يمكن الاستهانة بها فهي وقود البحث والمغامرة من أجل الحصول على كل ما يكرّس الاقتراب والاستحواذ على علاقة خاصة بالمقدّس.

قبل سنوات كنت مستسلما لفكرة أن فلسطين هي أرض قصص اﻷنبياء، وانطلقت من هذه المسلّمة أبحث عن جغرافيا قصص اﻷنبياء مستعينا بالنص القرآني، لا أخفي أني كنت أفعل ذلك تحت رغبة الاستحواذ على المقدس، وكشف أسراره والحصول على بركاته. ومن بين المواضيع التي كنت أبحث عنها فك لغز المكان الشرقي الذي انتبذته مريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) سورة مريم)، والذي وضعت فيه ابنها بالقرب من جذع نخلة وعين ماء.

دير مار سابا بين 1900 و 1920



فكان دير مار سابا المطلّ على وادي الجوز الواقع شرقي القدس (وليس جنوبها كما هو حال بيت لحم) أفضل مكان لهذه القصة، ولم يكن من السهل الاقتناع بأن وجود نخلة ونبع ماء داخل الدير  هو من قبيل الصدفة، ﻷن تلك النخلة هي الوحيدة في المنطقة، ورغم أن النخلة الكبيرة الظاهرة في صور الدير القديمة لم تعد موجودة إلا أن نخلة أخرى صغيرة تنمو مكانها.


نخلة دير مار سابا

بئر مار سابا



عندما سنحت لي فرصة زيارة فلسطين، كان دير مار سابا أحد أهم المواقع التي كنت أرغب في معاينتها، ذهبت إلى المكان، جلست في الكهوف المجاورة، ونزلت إلى الوادي وصعدت إلى الجبل المقابل للدير وتأملت المكان جيدا، ثم صعدت إلى الدير وطرقت الباب وطلبت اﻹذن بالدخول وزيارة المكان، لكن الراهب وبنظرة تعجّب رفض طلبي بالنزول إلى أسفل الدير حيث النخلة، أو الحصول على شربة ماء من النبع  ولم يرُق له أن أطلب ذلك.

نخلة مار سابا الصغيرة


دير مار سابا



لم تشفِ تلك الزيارة غليلي، وواصلت البحث في الكتب وعلى الشبكة العنكبوتية، ووحدها القراءة  جعلتني أكتشف أن المسلّمة التي انطلقت منها كانت خاطئة  وأن وهم امتلاك الحقيقة سيدفعك إلى خداع نفسك وتصديق أي شيء.. النخلة الموجودة في أسفل الدير تمت زراعتها قبل مئات السنين، وكلما ماتت يتم استبدالها بأخرى، والماء الذي في اﻷسفل ليس إلا ماء بئر تُملأ بمياه اﻷمطار عبر قنوات وضعها رهبان الدير الذي لا تصله خطوط المياه ولا  الكهرباء ولا الاتصالات ولا تدخله النساء أيضا حتى يتفرغ الرهبان للعبادة فقط.




كهوف مار سابا



قررت بعدها الرجوع خطوات إلى الخلف، خلف كلّ المسلّمات، والارتقاء إلى أعلى عبر البحث وتنويع مصادر القراءة، من أجل الحصول على صورة أشمل وأكثر قربا من الضالة المنشودة: الحقيقة.

لقد سيطرت رغبة الاستحواذ على المقدس على العلماء التوراتيين فراحوا يجوبون المنطقة بحثا حاملين التوراة في يدّ ومعولا في اليد اﻷخرى، فكان النص هو دليلهم لتعريف اﻵثار ولترجمة النقوش والسجلات لتتلاءم اﻷسماء والأحداث فيها مع النص، والنتيجة كانت تاريخا وجغرافيا تعجّان بالتناقضات، تم استغلالهما سياسيا لزرع كيان غريب عن المنطقة وتاريخها، مما تسبب في زعزعة اﻷمن والاستقرار في المنطقة والتسبب في حروب وكوارث لحقت ولا زالت ببلدانها وشعوبها.

لكن الفرضية المسلّم بها بأنّ فلسطين هي أرض الحدث التوراتي سقطت تحت مطارق البحث العلمي وعلم اﻵثار، فقد أثبتت اللُقى اﻷثرية، بأنه لم يحدث خروج جماعي من مصر القديمة، ولم يحدث غزو على فلسطين ولم تكن هناك مملكة عظيمة والقدس لم تكن موجودة وقتها، وفلسطين كان بها حاميات عسكرية تابعة لمصر القديمة وغيرها من اﻷدلة اﻵركيولوجية التي تنسف حدوث  قصص التوراة في فلسطين، ولا يتمسك بهذه الفرضية إلا شخص متديّن تأسره رغبة الاستحواذ على المقدس، أو باحث يخشى الاعتراف بأنه قد قضي سنيّ عمره بحثا عن وهم، أو من لا يكترث لكون هذه المسلمة حقيقة أو وهمًا.

عدم حدوث قصص التوراة في فلسطين، يعني إما أنها مجرّد أساطير لم تحدث لا في فلسطين ولا في غيرها، وهذا ما ذهب إليه بعض علماء الآثار اﻹسرائيليين والغربيين، أو أنها حدثت في مكان آخر، وهذا ما ذهب إليه عدد من الباحثين العرب.

القسم اﻷول من الباحثين العرب يدفعه في ذلك الرغبة في الاستحواذ على المقدّس تماما مثل علماء التوراة مما سيعرضهم إلى انتهاج وسائل غير علمية في أبحاثهم،  والقسم الثاني همّه إعادة كتابة تاريخ المنطقة بشكل علمي وتحريرها من التاريخ الخاطئ الذي ألصق بها اعتمادا على التاريخ التوراتي والذي تسبب في أغلب الحروب والكوارث التي ألمّت بها.

ونقطة الخلاف الجوهرية بين القسمين، هو أن اﻷول همّه العثور على جغرافيا قصص اﻷنبياء، والثاني يريد تصحيح التاريخ، ولا شك أن إعادة كتابة تاريخ المنطقة لا تخلو من مخاطر، فالبحث عملية تجريبية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ، واحتمالات الوقوع في الخطأ كبيرة جدا خصوصا في التجارب اﻷولى، كما  أن محاولة تغيير المسلمات التي اكتسبت قدسية مع مرور الزمن ستُقابل بمعارضة شديدة من الذين يرفضون اﻷفكار الجديدة  أو من الكسالى الذين دأبوا على وضع كل ما لا يعجبهم تحت مظلة نظرية المؤامرة، أو ممن يخشون التغيير وهم برأيي محقون في خشيتهم ﻷن تغيير تاريخ المنطقة أشبه بعملية جراحية خطيرة مفتوحة على احتمالات مختلفة.

لو أن المستقبل ليس رهينة الماضي والحاضر لما احتجنا لتصحيح التاريخ، لكن من أجل مستقبل أفضل  وأكثر أمنا ورخاء ﻷبناء المنطقة والعالم لا مفر من إعادة كتابة تاريخ المنطقة بطريقة علمية بعيدة كل البعد عن رغبات الاستحواذ على المقدّس، فهذا التاريخ المشوّه قد أنهك الجميع ويجب التخلص منه، ويجب التخلص من أوهامه، فلا يمكن أن يكون للصهاينة حق لا في فلسطين ولا في غيرها، ولن تكون نتائج إعادة كتابة تاريخ المنطقة إلا في سياق عملية تحرُّر من التاريخ التوراتي.


هناك تعليقان (2):

  1. صحيح فالاديان بحثت عن ارض وواقع لاثبات وجودها فملئت عقول البشر باوهام اصبحت مع الوقت حقائق ومسلمات

    ردحذف
    الردود
    1. تم اختلاقها واستغلالها سياسيا

      حذف