الخميس، 31 ديسمبر 2015

بين يوسف زيدان وعدنان إبراهيم وقصة آركولوف جدل تحضر فيه الحكايا ويغيب عنه الوجه الحقيقي للاحتلال

أثار ما أعلنه الدكتور يوسف زيدان عن حق اليهود في القدس وعن عدم قدسيتها عند المسلمين الكثير من ردود الفعل، وأسال الكثير من الحبر، وكانت أغلبها غاضبة انصبّ همّ أصحابها على إثبات أن القدس حق للمسلمين وليس لليهود، وكان رد الدكتور عدنان إبراهيم من على منبر مسجد في فيينا ثريًا بالمرويات والأدلة على ورود مصطلح "المسجد الأقصى" بمعانٍ مختلفة في المراجع قبل 250 للهجرة في ردٍ على تحدٍ رفعه يوسف زيدان في لقاء متلفز.

وبسبب اطلاعه الواسع،  وُفِق عدنان إبراهيم لاستحضار عدد من الأمثلة عن ورود مصطلحات: بيت المقدس والمسجد الأقصى في مراجع قديمة، وأغلبها معلوم لدى الباحثين والمهتمين بتاريخ فلسطين والقدس. لكن أكثر ما استوقفني ما ذكره عن شهادة رحالة من بلاد الغال إسمه آركولوف وردت في كتيب صغير يعود تاريخه لسنة 670 ميلادية، وينقسم لثلاثة أجزاء تتحدث عن رحلته إلى الأراضي المقدسة سنة  50 للهجرة، وأنه يشير  في الجزأ الأول من الكتيب إلى وجود مسجد للمسلمين مربع الشكل مصنوع من الأخشاب ويتسع لـ3000 رجل، على اعتبار أن هذا المسجد هو الذي أمر عمر بن الخطاب بإقامته بناء على ما أشار به عليه كعب الأحبار بإقامة المسجد مقابل الصخرة لكن عمر جعله بعد الصخرة في اتجاه مكة جنوبا

بحثت عن الكتاب وعن معلومات عن آركولوف، ولحسن الحظ أن مواقع كثيرة على الشبكة العنكبوتية تتحدث في الموضوع بلغات عدة منها الفرنسية والإنجليزية، قرأت بعض الصفحات باللغتين وعثرت على روابط لنسخ مترجمة من الكتاب، تصفحت الكتاب وتفاجأت من المعلومات التي وردت به،  وللتأكد من دقة النسخ المترجمة بحثت عن نسخة باللغة الأصلية التي كتب بها الكتاب وهي اللاتينية، واستعملت القواميس الفورية المتاحة على الشبكة لترجمة مقاطع من النسخة اللاتينية للتأكد من ورود مصطلحات بعينها في النسخة الأصلية وأن ورودها في النسخ المترجمة  لم يكن بسبب ترجمة في زمن لاحق. (ملاحظة: روابط الصفحات والكتاب والترجمات في آخر هذه التدوينة).

ملخص ما قرأته في هذا البحث السريع، هو أن آركولوف (Arculuf) هذا أسقف من بلاد الغال ذهب في رحلة للأراضي المقدسة، زار فيها القدس وبيت لحم أريحا والناصرة والقدس ودمشق والإسكندرية وغيرها ثم قفل عائدا، وأثناء رحلة العودة تعرضت السفينة لعاصفة هوجاء وضاعت وعبرت مضيق جبل طارق ورست بعد عناء على الشاطئ  الغربي لاسكتلندا حيث التقى بأب إيرلندي إسمه أدومنن (Adomnan)، حيث قص عليه آركولوف حكاية رحلته إلى الأراضي المقدسة، ودونها في كتاب لاحقًأ.


قطعة نقد أموية من عهد عبد الملك بن مروان كُتب عليها: فلسطين - ايليا



الكتاب لا يتحدث عن رحلة الذهاب، ويبدأ في بابه الأول بالوضع في جيروسالم وليس إيليا كما كان يطلق عليها في تلك الفترة وكما هو مثبت في القطع النقدية الأموية التي وصلتنا عن تلك الفترة (De situ Hierusalem , The situation in Jerusalem)، يصف أبواب المدينة ومواقعها بالنسبة لجبل صهيون (Montis Sion, Mount Sion)، ثم يتحدث أدومنن على لسان آركولوف عن سوق سنوي يقام في الخامس عشر من شهر سبتمبر (التقويم الميلادي) حيث يفِد حشد من الناس من أجل التجارة.

بيت الصلاة الخشبي عند الهيكل - من كتاب رحلة آركولوف


بعد ذلك وفي وصف لمكان الهيكل القديم (Templum , Temple) يصوّر بيتا للصلاة (Orationis domum, House of prayer) للسراسينس (Saracene, Saracens)  وهو حسب المراجع مصطلح كان يستخدم للتعبير عن سكان إقليم البتراء في العهد الروماني.

يتناول أيضا أدومنن في الكتاب قصة عن قطعة قماش مقدسة وضعت فوق رأس الرب المسيح في القبر،  يشب عليها خلاف بين اليهود والمؤمنين المسيحيين، وينتهي هذا الخلاف بتدخل ملك السراسينس معاوية (King of Saracens Mavias)    الذي أمر بإضرام نار ودعا أمام الحضور بإسم المسيح المخلص وألقى قطعة القماش في النار، لكن النار لم تلتهمها، وارتفعت وطارت وهبطت ببطئ عند المسيحيين.

ملك السراسينس معاوية وقصة قطعة القماش المقدسة - من كتاب رحلة آركولوف


وفي معرض حديثه عن دمشق يقول عنها أنها مدينة ملكية يحكمها ملك السراسينس وبها كنيسة أقيمت على شرف القديس يوحنا المعمدان وبها كنيسة يتردد عليها السراسنس غير المؤمنين (incredulorum Sarracenorum ecclesia , church of unbelieving Saracens)

وجّه مؤرخون غربيون انتقادات لهذا الكتاب منها أن المواضع المذكروة موصوفة بشكل غير دقيق، وأن صاحبه غير معروف ويعتبرون الكتاب من تأليف أدومنن، ويتستهجنون المعجزات التي يتحدث عنها وعن قصة رحلة السفينة الغريبة من البحر المتوسط مرورا بمضيق جبل طارق وصولا إلى غرب اسكتلندا.

لم ترد في الكتاب كلمة مسلمين واحدة، ولا إسم محمد –ص- ولا مصطلح مسجد ولا أقصى، وتحدث عن بيت للعبادة مصنوع من خشب يتسع لثلاثة آلاف رجل عند الحائط الشرقي وليس الجنوبي حيث يوجد الجامع القبلي، والكتاب يعتبر السراسينس شبه مسيحيين (Quasi Christians).

أتساءل هنا، هل حقا يريد عدنان إبراهيم الإستشهاد بهذا الكتاب المنسوب لـ"رجل دين" ليؤكد ليوسف زيدان أن هنك من ذكر وجود بيت للصلاة يصلي فيه السراسينس أشباه المسيحيين الذين يحكمهم ملك إسمه معاوية يدعو بإسم المسيح المخلص فوق مكان الهيكل مقابل جبل صهيون في العام 50 للهجرة!؟


وفي رد على ما ذكره يوسف زيدان عن حديث الواقدي عن مسجد أقصى في الجعرّانة، يورد عدنان إبراهيم حديثا من كتاب المغازي للواقدي ذاته، يقول فيه: وقالت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم. أي أن الواقدي تحدث عن بيت المقدس، لكن عدنان إبراهيم لم يكمل الحديث:  فقالت: آتي بخفيرٍ يقبل ويدبر. فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيتٍ يستصبح لك به فيه، فكأنك أتيته. فكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمالٍ يشتري به زيتٌ يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك. (رابط الصفحة من كتاب المغازي للواقدي: http://islamport.com/w/tkh/Web/332/350.htm )

فهل يُعقل أن يستبدل الرسول الصلاة بشراء الزيت؟ وهل يمكن عملا بهذا الحديث أن  يبعث الناس بأموالهم لشراء الزيت من القدس التي يحول بينهم وبينها الصهاينة فيكونوا بذلك وكأنهم أتوها!؟


الطرح الذي يتبناه يسوف زيدان حول أحقية اليهود في القدس دون المسلمين يعتمد بشكل مطلق على تاريخ إستشراقي مصدره قصص التوراة وتفسيرات رجال الدين لها وإسقاطها جغرافيًا على منطقة الشرق الأوسط وفلسطين تحديدا دون أن يكون في كل آثار المنطقة حجر واحد أو وثيقة تدعم هذا التاريخ، لكن هذا التاريخ التوراتي أصبح يُدرس أكاديميا على أنه تاريخ حقيقي، وأفضل مثال على على عدم دقة هذا التاريخ التوراتي هو أن أهم قصصه من خروج إبراهيم من العراق ودخوله فلسطين وقصة يوسف وخروج بني إسرائيل مع موسى ومملكتي داوود وسليمان رغم أهميتها كلها لم ترد في وثيقة واحدة من وثائق كل الممالك والإمبراطوريات التي تعاقبت على المنطقة، وهنا يقع على عاتق الأكادميين والمثقفين العرب إثبات زيف هذا التاريخ التوراتي الإستشراقي وليس تبني مواقف حاخامت صهاينة كالذي صرح به قبل سنة تقريبا الحاخام الرئيسي للجيش الصهيوني رافي بيرتس عن قدسية القدس عند اليهود دون المسلمين. (رابط للخبر: http://www.al-akhbar.com/node/220823 ).

وللأسف عندما أراد  عدنان إبراهيم أن يثبت أحقية المسلمين بالقدس اعتمد أيضا وبشكل مطلق على مرويات موروثة أطلقها رجال دين، وتمّ الانتفاع بها لأغراض سياسية، وهذه المرويات تصلح لمن يصدقون هذا الموروث من منطلق إيماني، لكن لا يمكن الاعتماد عليها عندما يتعلق الأمر بالموضوعية والنهج العلمي.

لقد قمت قبل سنوات ببحث حول قدسية القدس في الموروث العربي الإسلامي ولم أوّثقه لإدراكي لحساسية الموضوع،  وقد اعتمدت في بحثي نهجا علميا وتصفحت أغلب المراجع العربية، وتتبعت المرويات وكيفية تكرارها بصيغ مختلفة على سلّم الزمن، وتفاجأت عندما اكتشفت أن أهم المرويات التي يُعتمد عليها في هذا الموضوع ترجع لثلاثة أشخاص، هما اليهوديان كعب الأحبار ووهب بن منبّه والنصراني تميم الداري، ,وتم اعتماد أحاديثهم  تحديدا في تقديس الصخرة وتحديد المكان الذي صلى به الرسول بالأنبياء عليهم السلام، وقدسية المنطقة بشكل عام، ووصلت في النهاية لنتيجة أن تصديق هذه المرويات يندرج تحت بند الثقة في الموروث وليس من باب الدليل العلمي.

إن هذا الجدل الدائر بين الدكتورين يوسف زيدان وعدنان إبراهيم حول أحقية اليهود أو المسلمين في القدس مهما اختلفت زوايا الرؤية إليه، يندرج تحت تكريس طبيعة الصراع الديني على فلسطين، وفي حين أن المنطق يقول أنه في ظل عدم وجود أدلة حقيقية على هذه المزاعم بالأحقية الدينية سوى مرويات فالأجدر أن يتم التعامل مع القضية الفلسطينية بواقعها وباعتبارها قضية احتلال قامت بها جماعات صهيونية من جنسيات مختلفة لا يربطها أي رابط مع جماعة عاشت قبل آلاف السنين، ولا يحق لها أبدا الاعتداء على حقوق الشعب الذي يسكن هذه الأرض منذ القِدم.

الفلسطيني لا يدافع عن حقه الديني في فلسطين، وإنما عن حقه في العيش والعمل والنوم والأكل والشرب والعبادة والرقص على أرضه، تماما كما تفعل كل شعوب المعمورة.

أتمنى من كل قلبي أن يكف الدكتوران عن هذا الجدل الذي لا طائل منه والذي لن ينفع الفلسطينيين أبدا في تحرير وطنهم من الاحتلال الصهيوني.

الروابط:
صفحة تعريفية بأركولوف باللغة الفرنسية: https://fr.wikipedia.org/wiki/Arculfe
صفحة تعريفية بالأب أدومنن بالفرنسية: https://fr.wikipedia.org/wiki/Adomnan_d%27Iona
رابط كتاب باللغة الإنجليزية عن الساسينس (الشرقيين) يتناول في بعض أقسامه كتاب أدومنن عن أركولوف ورحلته: https://books.google.jo/books?id=qmAYkuZnMMQC&dq=quasi+christian+arculf&hl=ar
نسخة إلكترونية  باللغة الإنجليزية لكتاب الأراضي المقدسة لأدومنن عن رحلة آركولوف: http://users.skynet.be/Melissalatina/archivum/133/texte.htm

نسخة الكترونية باللغة اللاتينية لكتاب الأراضي المقدسة: https://la.wikisource.org/wiki/De_locis_sanctis
نسخة الكتروني لكتاب "The library of the Palestine Pilgrims' Text Society" الذي يتناول كتاب الأرضي المقدسة لأدومنن: http://www.archive.org/stream/libraryofpalesti03paleuoft/libraryofpalesti03paleuoft_djvu.txt

نسخة مصورة من كتاب أدومنن عن رحلة آركولوف باللغة الإنجليزية: https://archive.org/stream/libraryofpalesti03paleuoft#page/n0/mode/2up




هناك 4 تعليقات:

  1. تحياتي استاذي الفاضل جميل مقالك والتوجيه بالمطالبة ب الحق دون ربطه بالدين... فقط هناك آيه تقول... ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم... والخطاب لبني إسرائيل فأين هذه الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم؟ سؤال يؤرقني كلما أمر بهذه الآية... تحياتي وان كان التعليق بعد 8 أشهر إلا أني قرأت المقال امس

    ردحذف
    الردود
    1. واعرف ان الرد متأخر جدا كذلك وذلك لأني قد قرأت المقال الان..التوضيح.. ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم (كتب الله لكم ان تدخلوها) وليست كتبها لهم أي ملكهم

      حذف
  2. مرجعيات وتعريفات صادرة عن ويكيبيديا لا يمكن الإستشهاد بها لأن موقع ويكيبيديا قابل للتعديل والتغيير. وانا استغرب انك اطلقت على نفسك باحث!

    ردحذف
    الردود
    1. يبدو أنك لا تحب الويكيبيديا، لقد وضعت رابطا لصفحة الويكيبيديا لما فيها من معلومات وروابط خارجية ومراجع يمكن الاستفادة منها. وللباحثين الجادين أمثالك وضعت في اﻷعلى رابط تحميل كتاب آركولوف وكتب أخرى.
      أرجو الاطلاع على الكتب (من غير الويكيبيديا) ووضع رد "بنّاء" و "قيّم" اعتمادا على ما تقرأ فيها.
      شكرا على اهتمامك

      حذف