لطالما شغلني موضوع قصص الأنبياء، فقد قرأت كثيرا
من الكتب في هذا المجال، وشاهدت الكثير من الأعمال الدرامية والأفلام الوثائقية،
وتفحصت آيات القرآن مرارا وتكرارا، دراسة ومقارنة وتحليلا، راجعت أغلب التفاسير،
وانشغلت كثيرا بالبحث عن أماكن حدوث تلك القصص، فتارة أبحث عن الجودي (التي وردت
بالقرآن) حيث استوت سفينة نوح، وتارة أبحث عن قرية قوم لوط، وتارة أخرى عن مكان
شرقي القدس حيث يمكن أن تنتبذ امرأة حامل لتضع مولودها، أو عن بئر في طريق مصر حيث
ألقى أبناء يعقوب أخاهم يوسف أو عن "مقبلة" (مكفيلة) حيث يرقد إبراهيم
وسارة وأبناؤهما وزوجاتهم، أو عن مقام إبراهيم أو الوادي المقدس أو الشجرة المباركة أو مجمع البحرين وغيرها من
الأماكن التي ارتبطت بقصص الأنبياء.
سبب هذا الاهتمام أولا معرفة الحقيقة فيما
يخص قصص الأنبياء خصوصا وأنه توجد من القصة الواحدة عدة روايات وتفسيرات وثانيا فهم
جذور القضية الفلسطينية وفك طلاسم لغز الأرض الموعودة التي منحها الرب في التوراة
لشعب آخر دون أن يمنح شعبها أرضا بديلة مما سبب لهم معاناة لم يعرفها أي شعب آخر
على هذه الأرض من احتلال وقتل وتهجير على مدى قرون، وبالمحصلة إيجاد حل لهذه
القضية التي استعصى حلها على دعاة الحرب والسلام.
كنت أستخدم ما توفره لي الشبكة العنكبوتية من
وسائل في أبحاثي، فأستعين بمحركات البحث لإيجاد الكلمات والمعاني والمقالات
والأبحاث والكتب والفيديوهات والخرائط والصور، كنت أجمع المعطيات وأحلل وأقارن،
أحيانا كنت عندما أعثر على معلومة بين ثنايا كتاب أو مقال وأجد ما يؤكدها في الصور
والخرائط أشعر بسعادة غامرة وأعتقد أني أمسكت بطرف الخيط الذي سيوصلني للحقيقة،
لكن سرعان ما يتبدد ذلك الشعور بعد قليل من البحث وتحكيم العقل.
في 2012 سنحت لي فرصة انتظرتها طويلا، فقد
حصلت على تصريح لزيارة فلسطين، كانت فرحتي لا توصف، لم أصدق أن ذلك حدث بالفعل إلى
أن عبرت الجسر ووجدت أخي في انتظاري، ركبنا السيارة وانطلقنا وبقيت عيناي طول
الطريق تتأمل المكان وتضاريسه وألوانه وأسأل نفسي، هل حقا هنا حدثت كل تلك القصص..
وضعت برنامجا سريعا للأماكن التي يجب أن أزورها فكان أهمها المسجد الإبراهيمي حيث
توجد أضرحة للنبي إبراهيم وأبنائه وزوجاتهم، وكنيسة المهد ودير مار سابا والفريديس
ودير قرنطل وينبوع أليشع ومقام النبي موسى ووضعت أيضا قائمة لأماكن في القدس رغم
أن تصريحي مقتصر على الضفة الغربية وكل محاولاتي بالتسلل للقدس من مداخل مختلفة
باءت بالفشل.
انتهت زيارتي، وعدت أدراجي إلى عمّان، كنت في
غاية السعادة لأني تمكنت من رؤية أهلي وبلدتي وزيارة قبر أبي الذي وافته المنية
قبل زيارتي بأشهر والذهاب إلى كل تلك الأماكن المرتبطة بقصص دينية، لكن بالمقابل
كنت منزعجا لأني لم أمسك بطرف خيط واحد في طريق البحث عن الحقيقة... فقد اقتنعت
أكثر أن كل تلك الأماكن ليست إلا مزارات اعتاد الناس على مدى قرون زيارتها
وإعطاءها هالة من قداسة.
لم يدم ذلك طويلا فبعد زيارتي لفلسطين
بأسابيع، عاودت عملية البحث وقرأت نداء السراة لجمعية التجديد وأبحاث ومقالات
متنوعة تُجمع كلها على أن جغرافيا قصص الأنبياء ليست في فلسطين ولا علاقة لجمهورية
مصر العربية بمصر القرآن والتوراة.
اتخذت
وقتها قرارا بأن أعتمد اعتمادا كليا على النص القرآني لفك لغز جغرافيا قصص
الأنبياء، وبدأت أجمع الآيات المرتبطة بموضوع محدد وأقوم بتحليلها واستخدام العقل
والمنطق لاستخلاص ما يمكن أن يكون دليلا على موقع جغرافي أو على أقل تقدير دليل
نفي على أن قصة معينة لم تحدث في مكان ما لأن ذلك يتعارض مع العقل ومع النص
القرآني، لكني بعد فترة من العمل والبحث اكتشفت أن ما أقوم به لن يأخذني لأي شيء
جديد أبدا.
في تلك الأثناء شارك أحد المغردين الذين
أتابعهم على تويتر رابط مقال يتحدث عن كتاب فلسطين المتخيلة لفاضل الربيعي، يشرح
فيه كيف أن صاحب الكتاب يطرح فكرة مفادها أن اليمن هو الجغرافيا الحقيقية لأحداث
التوراة واعتمد في أبحاثه التي أوصلته لهذه النتيجة على كتاب التوراة وعلى كتاب
صفة جزيرة العرب للهمداني والشعر الجاهلي. سارعت بالحصول على نسخة من فلسطين
المتخيلة ونسخة من التوراة وحملت كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني وبدأت رحلة
القراءة والتدقيق، كنت أضع الكتب أمامي أتأكد وأقارن وأبحث على الشبكة العنكبوتية،
أراجع الخرائط ومواقع التقسيمات الإدارية لليمن وأبحث داخل المحافظات والمديريات
والقرى والعزلات وفي المواقع السياحية التي تتحدث عن آثار اليمن.
كان مثيرا للاهتمام والدهشة أن تكون أغلب
الأماكن الواردة في فقرة من التوراة مذكورة في كتاب الهمداني وموجودة في اليمن،
لكن الأهم هو تكرار هذه العملية في كل مرة أدقق فيها نصا، وحتى وإن كان عدد
الأماكن الموجودة متفاوتا من نص لآخر إلا أن التكرار هو الذي رجح صحة نظرية الربيعي.
نظرية الربيعي بالنسبة لي كانت مقنعة جدا لكن
كانت هناك مشكلتان: الأولى أن بعض أسماء الأماكن الواردة في كتاب فلسطين المتخيلة يقابلها
في اليمن أماكن بعيدة نسبيا عن أماكن أخرى وردت في نص واحد، مما يعني أن هناك
أماكن عديدة تحمل ذات الإسم بعضها باق وآخر اختفى، والثانية أن هذه النظرية بحاجة
لآثار ونقوش ومخطوطات تؤكدها.
بعد قراءة فلسطين المتخيلة بدأت البحث عن كل
الكتب التي تهتم بنفس الموضوع، فقرأت للصليبي وفرج ديب وزياد منى وغيرهم، لكني تفاجأت عندما عرفت أن هناك من غير
العرب من يناقش ذات الموضوع لكن من زاوية أخرى، نعم كيث وايتلام وإسرائيل فينكلشتاين
وغيرهما يؤكدون في كتاباتهم أن قصص التوراة لا يمكن أن تكون قد حدثت في فلسطين،
فقد حدث تزوير هائل في التاريخ، فآثار فلسطين والمنطقة تروي أحداثا مختلفة تماما
عن قصص التوراة.
وفي الآونة الأخيرة ظهرت على مواقع التواصل
نقوش بخط المسند ترد فيها مصطلحات كثيرة وردت في التوراة، كان ذلك دافعا للبحث عن
النقوش والمخطوطات اليمنية القديمة، رغم أن معرفتي بلغة المسند تقترب كثيرا من
معرفتي بالسنسكريتية إلا أنه من حسن حظي أن موقعا إيطاليا مختصا يوفّر كتابات النقوش
بالأحرف اللاتينية وترجمات بعضها إنجليزي وبعضها فرنسي وبلغات أخرى أيضا، وسرعان
ما اعتدت على الموقع واكتشفت تقنيات البحث السريع فيه، وكانت سعادتي بالغة عندما
عرفت أن كلمات "مصر" و"ومصرن" وردت أكثر من ستين مرة في هذه
النقوش ووردت ضمن أماكن يمنية قديمة مثل
سبأ وحضرموت وذي ريدان، وحتى كلمة إسرائيل وردت أربع مرات في هذه النقوش وفي أحدها
ترد كلمة مصر أيضا.
نقش CIH 543 الذي تظهر فيه كلمتا إسرائيل ومصر |
بالعقل فإن ورود هاتين الكلمتين تحديدا وغيرهما
من الكلمات في النقوش اليمينة أمر له دلالته وهو يخدم بشكل كبير نظرية جغرافيا
التوراة في جنوب الجزيرة العربية وفي اليمن تحديدا، ولحساسية الموضوع فقد أثار
ردود فعل متفاوتة بين المؤيد والمشكك والرافض رافضا قطعيا لهذه النظرية وهذا أمر
طبيعي، وشخصيا أتمنى أن تتم مناقشة هذه النظرية بشكل علمي بعيدا عن التراشق
والتشكيك، وأن تتخذ البحوث والدراسات منحى أكاديميا.
وفي الختام وبعد ما لاحظته من ردود الفعل
المتفاوتة من قضية أن اليمن هي الجغرافيا الحقيقية للتوراة، لي رأي شخصي أحب أن أسجله هنا في مجموعة نقاط:
-
إن البحث عن الجغرافيا الحقيقية لقصص التوراة والقصص الدينية بشكل عام
يساهم في تصحيح التاريخ الذي تم تدوينه بناء على القصص الدينية وليس على أحداث
تاريخية موثقة بالآثار والنقوش؟
-
أن يكون اليمن هو الجغرافيا الحقيقية للتوراة فهذا لا يعني بأي شكل من
الأشكال أنه الأرض الموعودة
-
الصهاينة لا يمثلون بأي شكل من الأشكال بني إسرائيل الذين جاء ذكرهم في
التوراة والقرآن ولا يحق لهم بأي شكل من الأشكال المطالبة بحق لا في فلسطين ولا في
اليمن
-
أن يكون اليمن مسرحا لجغرافيا التوراة ليس تأكيدا ولا نفيا على حدوث قصص الأنبياء
-
ما يمكن إستنتاجه من تطابق أسماء الأماكن والقبائل الواردة في التوراة مع أسماء الأماكن
والقبائل في اليمن هو أن كاتبي النص التوراتي اعتمدوا على الجغرافيا اليمنية لتدوين قصص أو أساطير محلية أو مستوحاة من قصص
وأساطير شعوب أخرى.
لقبول هذه النظرية يجب أن تقدم تفسيرا غير التفسير الموجود لكلمة يسريار في مسلة مرنبتاح 1208 ق.م وكلمة يسرال في مسلة الملك ميشع 840 ق.م وكلمة بيت عمري في مسلة شلمنصر الثالث 825 ق.م وكلمة داود في مسلة تل دان حوالي 850 ق.م وما دون ذلك يكون مجرد خيال ومصادفة تشابه أسماء.
ردحذفتشابه اسماء فقط... ضرغام هات تشابه اسماء فقط موجودة في اي بقعة من هذه الأرض و اسماء قديمة و لها تأريخها مش أسماء تم اطلاقها على بعض اماكن حديثا بهدف إسقاط ما جاء في التوراة على بعض المناطق التي يراد لها ان تكون هي (أرض الميعاد)
حذفيسراو او يزراو الواردة في نقش مرنتباح مش يسرال بلاش تزوير اوكي؟
حذفولكن لحظة استاذ صفوت,....هناك ادلة تشير الى كون مصر القران هي في الحبشة تصدق؟
حذفلا اعلم الصراحة ارى ما بين ايران و الرافدين مسرح جيد ومنطقي لاحداث بني اسرائيل
ردحذف