السبت، 13 أبريل 2013

تمشي على استحياء

كانت  خطبة الجمعة جميلة، تحدث فيها الخطيب عن ضرورة رد الاحسان بالاحسان، وفي سياق الخطبة ذكّر  المصلين بقصة سيدنا موسى عندما ورد ماء مدين وكيف سقى  للامرأتين   وكيف رد له أبوهما الشيخ الكبير الاحسان بالاحسان، ولم يفوّت الخطيب فرصة ذكر  "فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ" وراح يشدّ على الياء ويمدّ الألف في كلمة "استحياء" ورفع صوته صارخا في مكبّر الصوت وهو يعيدها، وراح يذكّر نساء المسلمين كيف يجب أن تسير المسلمة مقتدية بهذه المرأة، باستحياء لا كما تفعل النساء في أيامنا.

أعلم أن نية الخطيب خير، لكن يبدو أن في الأمر التباسا، فالمرأة التي سارت باستحياء باتجاه الرجل القوي الأمين الذي تولى إلى الظل بعد أن سقا لها ولأختها تدعوه لمقابلة والدها الشيخ الكبير، كانت قبل ذلك تذود (تدفع الناس) عن الماء.

سأشرح الأمر أكثر وسأورد هنا الآيات من سورة القصص، ففيها معان كثيرة وكبيرة، أكبر بكثير من مجرد سير امرأة على استحياء.

"وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)"

هذه الآيات تروي قصة سيدنا موسى وقد خرج خائفا يترقب بعد أن نصحه رجل من أقصى المدينة بأن يخرج منها لأن القوم يتآمرون لقتله.

وعندما  "ورد موسى عليه السلام "ماء مدين" (وارد الماء يرده لحاجة فيه من شرب أو غسل) وجد أمة من الناس يسقون ووجد امرأتين تذودان (الذود هو الطرد والدفع، لسان العرب) فقال ما خطبكما؟ وهو أيضا ممن ورد هذا الماء لحاجة فيه، فردتا لن نسقي حتى يتراجع الرعاء، وهذا يدلّ أن هذا الماء (سواء كان بئرا أو عينا أو بركة) هو للامرأتين وأبيهما تبيعانه للناس، ويبدو أن تزاحم الناس والرعاء (الرعاة وما معهم من مواش) على الماء جعلهن غير قادرات على إدارة عملية البيع، فخشين على الماء ومن ضياعه بلا مقابل، وهن وحدهن على الماء وأبوهما شيخ كبير، فراحتا تدفعان الناس وتطردانهم عن الماء.

هنا يقدّم سيدنا موسى المساعدة ويقوم ببيع الماء للناس، وواضح من سياق القصة أنه أظهر قوة في العمل، وأمانة في رد المال كاملا دون نقصان إلى الامرأتين، اللاتي أدركن ذلك.

ثم تولى إلى الظل، ويبدو أن الجو كان حارا فراح يستظل بعد أن انتهى من السقاية بعد انصراف الناس، وهنا دعا الله أن يغنيه من خيره.

فجاءته احدى الامرأتين تمشي على استحياء، وهذا حال عامة نساء والعرب خاصة (لما عهدناه في مجتمعاتنا)  فعندما تسير امرأة نحو رجل تكنّ لها مشاعر اعجاب أو ودّ لن تفعل إلا ذلك، وربما أجمل موقف يشابه هذه الحالة، هو حال الفتاة التي تخرج لتقدم القهوة لضيوف قدموا إلى البيت وفي زيارتهم نية لخطبة، فتجدها قد سارت  مطأطئة الرأس لا تنظر إلا إلى أسفل قدميها وقد احمر وجهها وانقطع نفسها تكاد تتعثر من الخجل، وهذا حال أغلب النساء، ولا أعتقد أن عليهن السير بهذه الطريقة طول الوقت وفي كل مكان وأمام كل الناس.

وهذه الاشارة لاستحياء المرأة التي راحت تدعو سيدنا موسى للقاء والدها الشيخ، انما هي ستفيد في ما يلي عندما يعرض الشيخ على سيدنا موسى أن ينكح احدى ابنتيه، وأكاد أجزم أنه تزوج من التي دعته للقاء أبيها بسبب ما استشعره من استحياءها وإعجابها به.

ودعوة الأب كانت ليجزي أجر سيدنا موسى على ما قام به من عمل، فذهب سيدنا موسى ليأخذ أجره، فجلس مع الشيخ وقصّ له قصته بعد قتل الرجل وخروجه من المدينة خشية القتل، فأجابه الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين، 

وبعد أن أدرك الشيخ حاجة سيدنا موسى لمكان يعيش فيه وعمل يعيش من أجره، وقد لاحظ اعجاب ابنته بهذا الرجل القوي الأمين، وهي تنصحه بأن يستأجره، فقدم الشيخ عرضا مفاده:

أن ينكح احدى ابنتيه (وهنا ترك له الاختيار وغالبا سيختار التي جاءته على استحياء) مقابل أن يأجره ثماني حجج وإن أتمّهن إلى عشر فذاك خير لكن لن يشق عليه إن لم يفعل، وسيكون معه من الصالحين.

بالنسة لي هذا أهم مقطع في القصة، وسأشرح تاليا:

- ربما كان على  سيدنا موسى عليه السلام الابتعاد عن المدينة التي هرب منها مدة ثماني سنوات (ربما حتى يسقط ما عليه في هذه المدة  من الأمر الذي خرج بسببع وهو قتل الرجل) لكن الشيخ أحب أن يُتمّهن إلى عشرة وترك الأمر لسيدنا موسى.
- المصطلح الذي استخدمه في التعبير عن السنوات هو "حِجج". والمتدبّر في دقة الكلمات والمعاني في القرآن سيدرك أن استخدام "حجج" له دلالاته، علما أنه:


في لسان العرب: الحِجَّةُ هي المَوْسِمُ؛ وقيل: في كل حِجَّة أَي في كل سنة، وجمعها حِجَجٌ.

في الصّحّاح في اللغة: حججت البيتَ أحُجُّهُ حَجَّاً، فأنا حاجٌّ. والحَجَّةُ: السنة، والجمع الحِجَجُ.



وهذا يعني أن أهل مدين وسيدنا موسى عليه السلام كانوا يعلمون بأمر الحج، وأن الحج كان معروفا في ذلك الزمان، وهذا يعني أيضا أن كليم الله موسى إن كان يعلم بأمر الحج إلى البيت الحرام، فهو من أولى الناس للقيام بذلك وهو النبي المسلم بنص القرآن، وهذا ما لن تجده في الكتب أخرى.

أعتقد أن هذه الأمور ذات أهمية كبيرة للباحثين عن مسرح أحداث تاريخ الأنبياء، والذي سيكشف كذبة اسقاط مسرح هذه الأحداث على فلسطين دون دليل.

سورة القصص وغيرها من سور القرآن تورد سردا للأحداث ووصفا اعجازيا للأماكن التي حصلت فيها، وتدبّر هذا الكتاب سيوصل حتما للحقيقة، وكما يقول سبحانه وتعالى  "إن هذا لهو القصص الحق".



في التدوينة على الرابط التالي محاولة لضبط مواضع هذه القصة:
http://el3a2elzineh.blogspot.com/2013/04/blog-post_16.html





للمتابعة
على تويتر: https://twitter.com/Safwat_Safi
على الفيسبوك: https://www.facebook.com/safwat.safi
على جوجل +: https://plus.google.com/u/0/114044892980825575911/posts



وادٍ غيرِ ذي زرع وليس غير ذي ماء

القرآن كتاب عظيم وفيه القصص الحق، وقد أمرنا منا الله سبحانه وتعالى بتدّبر آياته، ومن الآيات التي طالما فكرت في كلماتها هذه الآية : 


 الآية 37 من سورة إبراهيم، مصدر الصورة



الآية (37) من سورة إبراهيم: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ"

تمّ شرحها لنا على أنها ترك سيدنا إبراهيم لأمنا هاجر مع طفلها إسماعيل في واد قحط بلا ماء ولا طعام، ودعا ربه أن يبعث إليهما الناس ويرزقهما، في حين أن تدبّر الآية لا يوصل هذا المعنى:

فهو يقول:

"ربّنا": وليس ربي

"إنّي" :  أنا إبراهيم

" أسكنت" : ولم يقل تركت، وإنما أسكنت، والإسكان يكون بتأمين سكن سواء كان ذلك ببنائه (وقد ذكر القرآن أن سيدنا إبراهيم واسماعيل هما من رفع قواعد البيت) أو بشراء سكن جاهز) 

"من ذريتي":  من ذريته أي امتداد لنسله، وقد يكون المقصود أبناء أو أبناء وأحفاد وليس بالضرورة ولدا واحدا 

"في واد غير ذي زرع": ولم يقل غير ذي ماء أو غير ذي طعام، وإنما لعدم وجود  حرث وبذر وزرع في الأرض، وهذا لا يمنع وجود الماء وما توفره الأنعام من قوت (من ألبان ولحوم) وما كان يدّخره الناس من طعام، وخصوصا أن عملية إسكان الذرية قد تتطلب وقتا وجهدا، ولا ننسى أن القرآن ذكر كيف قدّم سيدنا إبراهيم لضيفه عجلا وهذا دليل كرم وغنى، 

"عند بيتك الحرام" وهذه اشارة لوجود البيت الحرام وأن سيدنا إبراهيم يعلم بذلك وذريته أيضا تعلم ذلك

"ربنا ليقيموا الصلاة"  ولم يقل يقيما دليل على أن المقصود جماعة من ذريته ولم يقل أيضا ليصلوا بل ليقيموا الصلاة عند البيت الحرام وهذه مهمة عظيمة.

"فاجعل" (وهنا يدعو الله) 

"أفئدة من الناس تهوي إليهم": وهذا دعاء لتوافد الناس (وذكر الأفئدة هنا دليل على القيام بذلك عن حب ولهفة تماما كما يحدث مع من يقصد مكة في وذلك الشعور الجميل الذي ينتاب الفؤاد) علهيم وهم يقيمون الصلاة في هذا المكان 

"وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون": وهذا دعاء بالخير والرزق بالثمر الذي لا يوفره هذا المكان لأنه "غير ذي زرع" والشكر لنعمة لله واستمرار الحياة لهذه الذرية في هذا المكان.

وهذا يدلّ أيضا أن سيدنا إبراهيم وذريته كانوا يعيشون بالأساس في مكان ذي زرع، وكانوا يأكلون مما تنبت الأرض ومن ثمارها، وعندما سكنوا عند البيت الحرام ليقيموا الصلاة، وذلك المكان ليس فيه زرع، هناك دعا سيدنا إبراهيم أن يرزقهم مما نقص عليهم من الثمرات بقدوم الناس إلى المكان الذي نزلوا فيه للعبادة أو للتجارة لعلهم يشكرون.


فهل يستوي المعنيان؟ 






للمتابعة
على تويتر: https://twitter.com/Safwat_Safi
على الفيسبوك: https://www.facebook.com/safwat.safi
على جوجل +: https://plus.google.com/u/0/114044892980825575911/posts