الأربعاء، 12 يوليو 2017

فلسطينيو عسقلان

لقد ترسخت في الوعي الغربي صورة نمطية كرستها قصص التوراة وأفكار المستشرقين منذ قرون 
حول الدور الذي قام به الإسرائيليون عندما كانوا الواسطة التي قام من خلالها الرب يهوه بتطهير الأرض المقدسة الموعودة من فسق وفجور الفلسطينيين وغيرهم ممن سكنوا تلك الأرض.



الفلست أو الفلشتيم أو الفلسطينيون في التوراة كانوا يشكلون خمس ممالك، ورد ذكرها في سفر يشوع فيقول: أَقْطَابِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْخَمْسَةِ هم: الْغَزِّيِّون وَالأَشْدُودِيّونِ وَالأَشْقَلُونِيّونِ وَالْجَتِّيّونِ وَالْعَقْرُونِيّونِ.



بحيث: ( الغزيون من عزة التوراة / غزة) و (الأشددوديون هم قرية اسدود) و(الأشقلونيون من عسقلان المجدل) و الجتيون من (تل الصافي – قرب عجور في محافظة الخليل) و (العقرونيون من خربة المقنع – قرب الرملة) بحسب الاسقاط الذي يطبقه التوراتيون على جغرافيا فلسطين


ومما يصعب تصوره أن المنطقة الساحلية الممتدة من عسقلان إلى غزة كان بها خمس ممالك، أو خمس قبائل فالمنطقة صغيرة لا تتسع لهذا العدد من الممالك أو القبائل ولا تعرف هذا النوع من التقسيم وإلا لبقي متوارثا ولذكرته كتب البلدان والأعلام العربية القديمة.


هؤلاء الفلسطينيون حسب مفسري التوراة والمستشرقين قدِموا من كريت أو من بحر إيجه واستوطنوا هذه الأرض، وقد كانوا أجلافا وعماليق، ونذكر : التوراة منهم جالوت الجبار الذي قتله داود في معركة دارت في مكان تذكره التوراة في سفر صموئيل حيث يقول النص:



"وَجَمَعَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ جُيُوشَهُمْ لِلْحَرْبِ، فَاجْتَمَعُوا فِي سُوكُوهَ الَّتِي لِيَهُوذَا، وَنَزَلُوا بَيْنَ سُوكُوهَ وَعَزِيقَةَ فِي أَفَسِ دَمِّيمَ.2وَاجْتَمَعَ شَاوُلُ وَرِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي وَادِي الْبُطْمِ، وَاصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ"







هذه الأماكن من غير الممكن العثور عليها في فلسطين، وإنما تم إسقاطها على مناطق تقع بين الخليل وساحل البحر.


وبفضل آلاف المؤلفات التي عمل عليها رجال دين ومؤرخون ومستشرقون تحوّلت هذه القصة في الوعي الغربي إلى ملحمة تاريخية ذات تأثير عالمي، وعلى سبيل الثمال في كتاب لمؤرخين حديثين، هما والتر لاكور وباري روبين كتبا في 1984 عن علاقة قصة بني إسرائيل القديمة باليهود الصهاينة:


"لقد كانت أرض إسرائيل مسقط رأس الشعب اليهودي، هنا تكونت هويتهم الروحية والدينية والقومية. وهنا حقق الشعب الاستقلال وأنشأ ثقافة كان لها أثر قومي عالمي. وهنا أيضا كتبوا الكتاب المقدس ووهبوه للعالم. وبعد النفي من أرض إسرائيل ظل الشعب اليهودي وفيا لهذه الأرض في جميع البلدان التي تشتت فيها ولم ينقطع قط عن الصلاة والأمل بالعودة إليها لاستعادة استقلاله القومي بدافع هذا الرابط التاريخي. جاهد اليهود طيلة القرون الماضية للعودة إلى أرض آبائهم ولاستعادة دولتهم. عاد اليهود بأعداد كبيرة في العقود الأخيرة. استصلحوا القفار وأعادوا إحياء لغتهم، بنوا المدن والقرى، وأسسوا مجتمعا قويا دائم النمو، له حياته الاقتصادية والثقافية الخاصة، سعوا إلى السلام لكنهم في الوقت نفسه استعدوا للدفاع عن أنفسهم. لقد جلبوا نعمة التقدم لجميع سكان البلد وتطلعوا للتحرر والاستقلال."


وبهذا الشكل ارتسمت صورة راقية للحركة الصهيونية في الغرب، وبالطريقة ذاتها تم تكريس صورة نمطية أخرى معاكسة عن الفلسطينيين مستمرة إلى يومنا بحيث لا زال معنى كلمة فلسطيني: بمختلف اللغات :Philistine, Philistin, Filestio, Filester هي كلمة مهينة تستخدم لوصف شخص لا يحب أو لا يفهم الفن والأدب والموسيقى وتقال للشخص لجلف غير المتحضر. 


في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تم التقاط آلاف الصور في فلسطين وهذه الصور تعجّ بها أرشيفات عدة دول غربية، لقد كانت تلك الصور تقدم للجمهور الغربي الصورة المتخيلة النموذجية للأرض القديمة المقدسة: رعاة وقرويين وبدوا ونساء بأزياء قديمة يعيشون حياة بدائية. ويقابل هذه الصورة صورة أخرى لمهاجرين صهاينة بأزياء حديثة، يعملون في مزارع الكيبوتسات والمصانع وينقلون شعلة الحضارة الغربية إلى الأرض القديمة.
صهاينة قادمون من أوروبا

فلسطينيون من رام الله



لدرجة أنه بعد عامين من وعد بلفور الشهير الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بتأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كتب بلفور العبارات العنصرية التالية:


"إن القوى الأربع العظمى ملتزمة بالصهيونية وسواء كانت الصهيونية على خطأ أم على صواب أو كانت شيئا جيدا أو سيئا فإنها متأصلة بعمق في تراث الماضي البعيد وفي حاجات الحاضر وآمال المستقبل وهي أهم بكثير من رغبات وتحيزات السبع مئة ألف عربي الذين يقطنون الآن تلك الأرض القديمة"



لكن آثار فلسطين تقدّم صورة مختلفة عن البشر الذين عاشوا في أواخر العصر البرونزي في فلسطين، فقبل سنوات وبعد بحث دام ثلاثين عاما اكتشف فريق تنقيب عن الآثار مقبرة كبيرة في عسقلان المدينة التي يزعم الصهاينة أنها إحدى المدن الفلسطينية الخمس المذكورة في التوراة.



المقبرة تحتوي على مئتين وأحد عشر هيكلا تعود للفترة ما بين القرنين 11- 8 ق.م، أي الفترة التي نشأت فيها مملكة إسرائيل الكبرى والمزعومة أنها كانت على أرض فلسطين. هذا العدد الكبير من القبور كافٍ ليوفر قاعدة بيانات ثرية جدا عن الحياة في تلك الفترة، عن والغذاء، والعادات الدينية والإجتماعية، ومعدلات الأعمار، وأسباب الوفاة وعادات الجنائز وعن أنواع الأمراض التي كانوا يعانون منها، بالإضافة لما يمكن أن يقدمه تحليل الحمض النووي من معلومات عن أصحاب هذه القبور.

ولو أن ما رشح من معطيات حتى الآن يعد قليلا، لكنه كاف ليكشف الكثير وليشكل صدمة لأصحاب تلك الصورة النمطية عن الفلسطينيين:


أولا أصحاب هذه القبور أحجام أجسادهم عادية... فلا عماليق ولا جبابرة بينهم!





ثانيا تمتع أصحاب هذه القبور بذوق فني رفيع، فقد امتلأت قبورهم بقوارير عطور، وآذانهم زينت بأقراط فضية دقيقة قد وأجسادهم بعقود وأقراط وأساور وخواتم مصنوعة من البرونز والعقيق والصدف والخرز مما يؤكد اهتمامهم بكل ما يتعلق بالذوق والجمال.



أمام هذا التناقض بين اللقى اﻷثرية والقصة التوراتية، فالمنطق لا يترك إلا خيارات قليلة:

- إما أن قصص التوراة هي قصص خيالية
- أو أن قصص التوراة تتحدث عن زمن أقدم وهذا أمر مستحيل ﻷن أحداث التوراة محصورة بأمور تتعلق بتتطور أدوات البشر وحضارتهم (مثل الكتابة والزراعة والصناعة)
- أو أن قصص التوراة حدثت في مكان آخر


لكن الحتمي والثابت  أن أصحاب قبور عسقلان لم يكونوا عمالقة ولا أجلافا، ولا علاقة لهم ببني إسرائيل، والصورة النمطية التي تكونت بعامل هذه القصة هي صورة زائفة.



رابط مشاهدة حلقة فلسطينيو عسقلان من سلسلة #تاريخ_فلسطين_المغيب :
https://www.youtube.com/watch?v=230z7VyTIxM

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق