الأربعاء، 19 يوليو 2017

بئر السبع مكة التوراة


تل أبو محفوظ موقع أثري اعتبره توراتيون تل بئر سبع التي ذكر في التوراة، بنى فيها العثمانيون ثكنة عسكرية وأسسوا فيها مدينة صغيرة، ظهرت صورها وصور سكانها في كثير من المطبوعات الغربية وسقطت في يد البرياطانيين في الحرب العالمية الأولى سنة 1917 وبعدها احتلها الصهاينة في 1948 وهجروا أهلها من عشيرة أبو محفوظ التي تنتسب لقبيلة عنزة العربية.





بئر السبع في مطلع القرن العشرين


بئر السبع الآن مدينة كبيرة وهي تعد المدينة الثانية من حيث المساحة في كيان الاحتلال الصهيوني المسمى إسرائيل.


ورد ذكر بئر سبع عدة مرات ضمن صيغة "من دان إلى بئر سبع" والتي تمثل حدود إسرائيل الكبرى في التوراة (إسرائيل ويهوذا) أي دان التي تم اسقاطها على منطقة تل القاضي أقصى شمال فلسطين قرب بحيرة الحولة التي جففها الصهاينة، وبئر سبع التي تم اسقاطها على تل أبو محفوظ. وبذلك تكون بئر سبع هي الحد الجنوبي لتلك المملكة المتخيلة على أرض فلسطين. أي أن صحراء النقب إلى أم الرشراش (إيلات) لا تقع ضمن الأرض المتخيلة لمملكة إسرائيل القديمة.

وورد ذكر بئر سبع في قصة يوسف عندما طلب من أبيه يعقوب - إسرائيل الحضور إلى مصر التوراتية "فَارْتَحَلَ إِسْرَائِيلُ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ وَأَتَى إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ، وَذَبَحَ ذَبَائِحَ لإِلهِ أَبِيهِ إِسْحَاقَ" (سفر التكوين 46:1)

وترد في قصة إسحق حيث يقول النص في سفر التكوين: "ثُمَّ صَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ.  فَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَالَ: «أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ. لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ، وَأُبَارِكُكَ وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ مِنْ أَجْلِ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِي،  فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ. وَنَصَبَ هُنَاكَ خَيْمَتَهُ، وَحَفَرَ هُنَاكَ عَبِيدُ إِسْحَاقَ بِئْرًا." وقد بحث منقبو الآثار جاهدين عن هذا المذبح وعندما لم يعثروا عليه قاموا ببناء مذبح من حجارة عثروا عليها في تل أبو محفوظ وقالوا أن هذه الحجارة قد تكون من حجارة المذبح القديم.


يأتي ذكر بئر سبع أيضا في قصة حلف البئر بين إبراهيم وأبيمالك:
 "وَعَاتَبَ إِبْرَاهِيمُ أَبِيمَالِكَ لِسَبَبِ بِئْرِ الْمَاءِ الَّتِي اغْتَصَبَهَا عَبِيدُ أَبِيمَالِكَ.
26 
فَقَالَ أَبِيمَالِكُ: «لَمْ أَعْلَمْ مَنْ فَعَلَ هذَا الأَمْرَ. أَنْتَ لَمْ تُخْبِرْنِي، وَلاَ أَنَا سَمِعْتُ سِوَى الْيَوْمِ».
27 
فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ غَنَمًا وَبَقَرًا وَأَعْطَى أَبِيمَالِكَ، فَقَطَعَا كِلاَهُمَا مِيثَاقًا.
28 
وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ سَبْعَ نِعَاجٍ مِنَ الْغَنَمِ وَحْدَهَا.
29 
فَقَالَ أَبِيمَالِكُ لإِبْرَاهِيمَ: «مَا هِيَ هذِهِ السَّبْعُ النِّعَاجِ الَّتِي أَقَمْتَهَا وَحْدَهَا؟»
30 
فَقَالَ: «إِنَّكَ سَبْعَ نِعَاجٍ تَأْخُذُ مِنْ يَدِي، لِكَيْ تَكُونَ لِي شَهَادَةً بِأَنِّي حَفَرْتُ هذِهِ الْبِئْرَ».
31 
لِذلِكَ دَعَا ذلِكَ الْمَوْضِعَ «بِئْرَ سَبْعٍ»، لأَنَّهُمَا هُنَاكَ حَلَفَا كِلاَهُمَا."
وقد بحث التوراتيون عن هذه البئر في أرض تل أبو محفوظ، وقد عثر ثومسون في نهاية القرن التاسع عشر على بئر وبالرغم من أن حجارة تلك البئر تعود للفترة البيزنطية بحسب ما يؤكده علماء الآثار إلا أنه تم إطلاق إسم بئر إبراهيم عليها وتم ترميمها وهي الآن مزار ضمن متحف في بئر السبع.







أما أبيمالك الذي ذُكر في قصة البئر فهو ملك جرار التي تم إسقاطها على خربة إم الجرار جنوب شرق غزة والتي قيل أن أهلها من عائلة أبو معيلق هم امتداد لهذا الملك أبيمالك لتشابه صيغة الإسم!  (Abimelech - Aboumeileg)

وأبيمالك هذا وفقا للقصة التوراتية رجل شهم فقد قال إبراهيم عن زوجته سارة أنها أخته، فأرسل أبيمالك وأخذها، ولما عرف أنها متزوجة دعا إبراهيم وقال له ماذا فعلت بنا؟ وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية عظيمة؟ فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم ورد إليه سارة


والقصة ذاتها تقريبا حدثت قبل ذلك مع فرعون مصر التوراتية: إذ أوصى إبراهيم سراي زوجته "قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ" (تكوين 12:13)
وأأخذ فرعون سارة و "صَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ." (تكوين 12:16)
وبعد أن اكتشف فرعون أنها زوجة إبراهيم وليست أخته قال له "هوذا امرأتك، خذها واذهب" (تكوين 12:19)


ثم صعد أبرام وزوجته وكل ما كان له ولوط معه إلى الجنوب، وقد كان غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب تماما كما تقول التوراة نصا، ذهبوا إلى بيت إيل وهناك حدثت مخاصمة بين رعاة أبرام ورعاة لوط قررا بعدها أن يفترقا فسكن أبرام في أرض كنعان ولوط نقل خيامه إلى سدوم.


أما أهم ذكر لإسم بئر سبع في التوراة هو برأيي لقصة هاجر و إسماعيل ، يقول النص في سفر التكوين:
9 وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ،
10 
فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ».
11 
فَقَبُحَ الْكَلاَمُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ابْنِهِ.
12 
فَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ.
13 
وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ».
14 
فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَالْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ.
15 
وَلَمَّا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ طَرَحَتِ الْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَارِ،
16 
وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لأَنَّهَا قَالَتْ: «لاَ أَنْظُرُ مَوْتَ الْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ.
17 
فَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الْغُلاَمِ، وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ.
18 
قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً».
19 
وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ.
20 
وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ.
21 
وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.

هذه القصة تشبه إلى حد كبير النسخة اﻹسلامية التي تجعل مسرح هذه الحادثة في مكة، ورغم أن  البعض يرى  أن فاران هي امتداد لشبه جزيرة سيناء بسبب ورود ذكرها في قصة خروج موسى وبني إسرائيل من مصر إلا أن  البعض الآخر يعتقد أنها في الحجاز تماشيا مع النسخة الإسلامية من القصة.


يذكر النص التوراتي الإسماعيليين في مواضع شتى ومن بينها قصة يوسف مع إخوته عندما ألقوه في بئر في دوثان التي وضعها التوراتيون في منطقة عرابة قرب جنين، حيث مرت قافلة للإسماعيليين قادمة من جلعاد التي يعتبرها التوراتيون قرب السلط في منطقة البلقاء في الأردن ومرورا بشكيم التي يعتبرونها نابلس ذاهبة باتجاه مصر.. بالطبع سواء أكان الإسماعيليون من سكان النقب أو الحجاز سيصعب تفهّم سبب مرور قافلتهم المتجهة نحو مصر من البلقاء ونابلس.


وتجدر الإشارة هنا لما وقع فيها المؤرخون والجغرافيون والمفسرون المسلمون والعرب من ارباك أيضا عندما اعتمدوا القصة التوراتية التي نقلتها لهم كتب أهل الكتاب على حد وصفهم في ذلك الحين، فنجدهم يذكرون حبرون وأشدود وعسقلان باعتبارها أماكن وردت في القصة التوراتية، لكن تفاديا لما قد تسببه قصة بئر سبع من تناقض يعتمدون القصة الإسلامية عن زمزم ومكة ولتفسير ذهاب وعودة إبراهيم من جرار إلى مكة في نفس اليوم أوردوا في كتبهم قصة الدابة التي كانت تنقل إبراهيم بسرعة هائلة.


فمثلا الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك في القرن الثالث الهجري والذي يعد أحد أهم وأقدم المراجع التي نهل منها أغلب من جاء بعده من المؤلفين يقول في معرض حديثه عن قبر إبراهيم : "إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر ، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو الذي قضى له ببئر السبع هي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن"

وعندما يتحدث عن قصة إسماعيل وهاجر يقول: "فوضعهما بمكة"، وعند الحديث عن قصة الذبح يقول: "كان إبراهيم فيما يقال إذا زارها يعنى هاجر حمل على البراق يغدو من الشأم فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشأم"

لا يمكن أن تكون بئر سبع هي التي في تل أبو محفوظ وفي مكة في آن واحد، هذا يطرح مشكلة حقيقية في جغرافيا التوراة وارتباطها بجغرافيا فلسطين. وهذا ما تؤكده اللقى أﻷثرية ونتائج التنقيبات في فلسطين.

الدكتورة ليدار سابيرهن رئيسة مختبر علم آثار الحيوان في معهد علم الآثار في جامعة تل أبيب والدكتور إيرز بن يوسف في دراسة نشرتها مجلة معهد الآثار في جامعة تل أبيب في دراسة عن دور الحيوانات في الثقافة الإنسانية القديمة، في أواخر عام 2013 بعد  تنقيب وبحث في منطقة مواقع صهر النحاس في منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت، و باستخدام الكربون المشع والأدلة المكتشفة في الحفريات يؤكدان أن أول ظهور للجمال في وادي عربة لم يكن قبل سنة 930  قبل الميلاد وأن هذا التاريخ يتوافق مع معطيات أخرى من النقب والمناطق الشمالية.

أما أستاذ علم آثار إسرائيل في العصر البرونزي والعصر الحديدي في جامعة تل أبيب، والمدير المشارك في التنقيب في تل مجدو في شمال فلسطين المحتلة إسرائيل فنكلشتاين والمؤرخ وعالم الآثار نيل سيلبرمان في كتابهما التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها يقولان: "في الحقيقة، لقد كشف التنقيب في تل جمه (جبل صغير غرب بئر السبع وشرق دير البح) والذي كان يشكل مخزنا مهما جدا على طريق القوافل الرئيسي بين الجزيرة العربية والبحر الأبيض المتوسط كشف عن زيادة مثيرة في عدد عظام الجمال في القرن السابع ق.م كانت العظام كلها تقريبا لحيوانات بالغة مما يفيد بأنها كانت من الدواب المستخدمة لحمل الأثقال في الأسفار وليست من القطعان التي يتم تربيتها محليا وإلا لوجد بينها عظام حيوانات صغيرة أيضا"

أي أن نتائج التنقيبات الأثرية تجمع على أنه لم يكن هناك وجود للجمال قبل 930 ق.م زهذا يترتب عليه بشكل منطقي ومباشر أن القصة التوراتية عن دخول الجمال مع إبراهيم ولوط والتي يفترض أنها حدثت حوالي 1900 قبل الميلاد هي حدث مستحيل، وأن الخليل ليست حبرون وتل أبو محفوظ ليست بئر السبع وكل ما بُني على هذا الاسقاط باطل.






مصادر:

1- تقرير ناشيونال جيوغرافيك (باللغة اﻹنجليزية) حول تاريخ وجود الجمال في فلسطين: http://news.nationalgeographic.com/news/2014/02/140210-domesticated-camels-israel-bible-archaeology-science/
2- تقرير جامعة تل أبيب (باللغة اﻹنجليزية) حول عدم وجود آثار جِمال قبل 930 ق م في فلسطين:
https://archaeology.tau.ac.il/ben-yosef/pub/Pub_PDFs/Sapir-Hen&Ben-Yosef13_CamelAravah_TelAviv.pdf


3- التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها - إسرائيل فنكلشتاين ونيل سيلبرمان





هناك تعليق واحد:

  1. ممدوح الحويطى4 يوليو 2022 في 3:29 م

    موضوع شيق جدا شدنى فيه الكلام عن بئر السبع التى هى أقرب لأن تكون بئر زمزم والسبع هى جوهر السبع اشواط بين الصفا والمروة التى هى من مناسك العمرة .. أكرر شكرى وامتنانى لصاحب المدونة

    ردحذف